معلومٌ ومشهور أن العربَ أولُ من رفعَ رايةَ الإسلام، وحين ضعُفَ العربُ بضعفِ الدولةِ الأموية سلَّموا الرايةَ للفرسِ مع قيام الدولة العباسية، وحين ضعُفَ الفرسُ سلَّموا الراية للأتراك مع قيام دولةِ السلاجقة ومن بعدهم عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود، وحين ضعفَ الأتراكُ سلَّموا الراية للأكراد مع قيام الدولةِ الأيوبية، وحين ضعفَ الأكرادُ سلموا الراية للعناصر التركمانية والشركسية مع قيام دولةِ المماليك، وحين ضعف هؤلاء عادت الرايةُ تركيةً مع قيام الدولة العثمانية.
هذا التناوبُ في حمل الراية كان سببًا في تجديدِ شباب الأمة، وضخِّ دماءٍ جديدةٍ في الجسد الإسلامي.
ثم كان كلُّ عنصرٍ يحملُ الراية يقومُ بموجةِ فتوحاتٍ إسلاميةٍ جديدة، تُوسِّع الرقعة الإسلامية، وتقهرُ أعداءَ الأمة، وترُدُّ كيدَ الطامعين.
فلماذا لم يحمل أحدٌ الراية بعد الدولة العثمانية؟
قامت الدولةُ العثمانية عام 1299م، وسقطت (رسميًا) عام 1924م، لكنها انتهت (فعليًا) قبل هذا التاريخ بقرنين من الزمان، حين أطلقوا عليها “رجل أوروبا المريض” الذي ينتظرون موتَه ليتقاسموا تركتَه وميراثَه.
“إكلينيكياً” كان قد مات، ولكن رأت بريطانيا إبقاءَه في غرفةِ الإنعاش تحت المحاليل والتنفسِ الصناعي حتى يتمَّ التخلصُ من وريثٍ طمّاع يريدُ أن يستحوذَ على معظم التركة (روسيا).
كانت روسيا تريدُ إسقاطَ الدولة العثمانية وإعلانَ وفاةِ المريض ليحصلَ كلُّ وريثٍ على نصيبِه، ونصيبها هو كل الأراضي التي توصلها للمياه الدافئة في البحر المتوسط والمحيط الهندي.
رأت بريطانيا أن إعلانَ الوفاةِ سوف يُدخل المجتمعَ الدولي في صراعاتٍ قد تقودُ إلى حربٍ عالمية ضروس.
ولذلك كانت سياسةُ بريطانيا خلال قرنين من الزمان هي الحفاظُ على حياة المريض، يبقى مريضًا أي نعم، لكن لا يموت.
حين ضعُفت الدولةُ العثمانية ظهرت بشائرُ النهضةِ في عناصرَ أخرى في الأمةِ الإسلامية.
وكانت هذه العناصرُ مرشحةً لأن تخلفَ الأتراكَ في حملِ رايةِ الإسلام.
فهل تسمحُ بريطانيا لهذه التجارب الوليدة أن تنضجَ وتُؤتي أُكُلها؟
قتلت بريطانيا كلَّ هذه البراعم، وتآمرت على كل هذه التجارب، ووأدتها قبل أن تستكملَ عدَّتها، التجربة العربية مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، التجربة الكردية مع الأمير ميركور مير محمد ثم الأمير بدرخان، تجربة الشيخ ضاهر العمر في فلسطين، تجربة محمد علي باشا في مصر (على دَخَنٍ).
قضت بريطانيا على كل هذه البراعم، وقطعت تواصلَ الأجيال بين الأمة، وحرمت المسلمين من مشاريع نهضة جديدة ترفعُ راية الإسلام.
وظلت الدولة العثمانية على ضعفِها، فلا بَرِئ الأتراكُ من مرضِهم، ولا قام من يخلُفهم، وبذلك ضعفت الأمةُ كلُّها.
جاءت الحرب العالمية الأولى، وفي سنة 1917م قامت الثورة الشيوعية البلشفية في روسيا، وانسحبت روسيا من الحرب العالمية، ومن السياسة الدولية كلها، وانشغلت بنفسِها وحربها الأهلية.
وبذلك تخلصت بريطانيا من الوريث الطماع، وحان إعلانُ وفاةِ الرجل المريض.
سقطتِ الدولة العثمانية، ولم يخلفْها غيرُها، وسقطت معها البلادُ الإسلامية تحت الاستعمار الصليبي.
حين جاء عهد الاستقلال (المزعوم) تم تسليمُ البلادِ لوكلاء الاستعمار وأعوانِه.
ومن هنا تعلمُ حجمَ الصعوبات والعقبات التي تواجه أيَّ تجربةٍ وليدةٍ تريد أن ترفعَ الراية الإسلامية من جديد.