إن العدد الذي كشفت عنه فيسبوك يعادل تقريبا من صوتوا في الانتخابات الرئاسية”. هذه الكلمات للمرشحة الخاسرة في الانتخابات الرئاسية الأميركية هيلاري كلينتون، ربما تختصر حجم التأثير الذي يمكن أن تكون قد أسهمت به “الدعاية السوداء” على منصات التواصل في تغيير توجهات ملايين الناخبين الأميركيين.
والمقصود بالدعاية السوداء هنا هو إغراق هذه المنصات بمواد موجهة إما بأساليب تقنية، أو عبر الجيوش الإلكترونية، أو دفع أموال طائلة في إطار توجيه مواد سياسية لجمهور في منطقة جغرافية أو جنسية محددة.
تعليق كلينتون جاء بعد أن أعلنت شركة فيسبوك قبيل جلسات استماع عقدتها لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأميركي الأسبوع الماضي؛ أن 126 مليون أميركيا تأثروا بمواد وصلتهم من مصادر روسية مشبوهة تتعلق بالانتخابات الرئاسية الأميركية خلال حملتها عام 2016.
إمبرطوريات التواصل
الأرقام لا تخص فيسبوك فقط، بل شاركتها فيها إمبراطوريات شركات التواصل الأكبر في العالم، فقد كشفت فيسبوك أيضا عن أن نحو عشرين مليون أميركي اطلعوا على محتويات مماثلة من مصادر روسية نشرت على منصة إنستغرام التي تملكها الشركة العملاقة.
كما كشفت منصة التدوينات القصيرة “تويتر” عن أن نحو 37 ألف حساب آلي (بوت) لها صلات بروسيا نشرت 1.4 مليون تغريدة يحتمل أن يكون اطلع عليها 288 مليون شخص في الأشهر الثلاثة التي سبقت الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
كما حدد غوغل حسابات مرتبطة بروسيا نشرت إعلانات على يوتيوب، منصة الفيديو التشاركية التابعة لعملاق الإنترنت، وتأثر بها ملايين الأميركيين، وتم الكشف عن أن مصادرها روسية أيضا.
وبينما كان دور لجنة التحقيق برئاسة روبرت مولر في احتمالات التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة مهما في الكشف عن هذه الحقيقة، تتكشف معلومات وأبحاث عن تأثيرات مماثلة للدعاية السوداء.
نماذج لمحتويات روسية عرضت أمام لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ قالت شركة فيسبوك إن نحو 126 مليون أميركي تأثروا بها في حملة الانتخابات الرئاسية عام 2016 (رويترز).
صناعة المحتوى
وعلى القاعدة التي يرددها خبراء منصات التواصل بأن “المحتوى هو الملك”، فإن هذا المحتوى ربما بات هناك جزء مهم منه يتعرض للصناعة ولا ينتج عن تفاعل طبيعي.
وحتى تخرج لجنة التحقيق بخلاصاتها، يمكن إلقاء نظرة على أرقام تأثر الأميركيين واهتماماتهم على منصات التواصل، ومنها -مثلا- ما نشره موقع “غلوبال ريسك إنسايت” المتخصص، الذي يسلط الضوء على حجم تأثير الدعاية التي ربما بثتها روسيا في منصات التواصل.
ويقول المواقع إن نحو ثلثي البالغين في الولايات المتحدة يستخدمون وسائل الإعلام الاجتماعي، وهي بالنسبة للكثيرين المصدر الأول للأخبار وجمع المعلومات، كما أن نحو 39% من البالغين الأميركيين ينخرطون في الأنشطة السياسية عبر مواقع التواصل.
ويكشف غلوبال ريسك عن أن حجم الإعلانات على منصات التواصل عام 2016 بلغ نحو ثمانية مليارات دولار، والملفت أن نحو 13.5% منها أنفقته حملات انتخابية.
توجيه البريطانيين
في مقال له عن مدى تأثير الدعاية السوداء على توجهات الناخبين البريطانيين الذي صوتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي العام الماضي، يكشف مراسل صحيفة الغارديان لشؤون التكنولوجيا أليكس هيرن أن هناك دلائل على أن هذه الدعاية أسهمت بشكل ما في توجيه الناخبين البريطانيين.
ويقول إن شركات متخصصة تقوم بصناعة محتوى يتناسب مع توجهات الأفراد الذين تستهدفهم خلال الحملات السياسية، ويشر إلى أن شركات من أمثال “كامبريدج أناليتيكا” و”أغريغايت أي كيو”، تعمل في هذه الصناعة بهدف استهداف الناخبين بشكل أفضل من خلال الإعلانات السياسية.
وينقل عن مدير الأبحاث والمؤسس المشارك لـ”مؤسسة الخصوصية على شبكة الإنترنت” غير الربحية كريس سومنر، الذي قاد البحث حول مسألة “الإعلانات السوداء”؛ قوله إن “القلق الذي كان ينتابنا قبل ظهور نتائج الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان على خلفية إمكانية التلاعب بالأشخاص وتوجيه آرائهم المنحازة، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، أما الآن وبعد أن قمنا بهذا البحث، فقد ازدادت حدة مخاوفي”.
ومؤخرا، فوجئ مئات الآلاف من البريطانيين بغزو مواد تتهم دولة قطر برعاية الإرهاب على حساباتهم على تويتر، إضافة إلى مواد تتعلق بحقوق العمال الذين يعملون في مشاريع منشآت كأس العالم.
وكشفت صحيفة التايمز البريطانية عن أن مصدر هذه المواد حسابان تم إنشاؤهما قبل أسبوعين فقط من الحملات، التي تبين أنها ممولة من دول حصار قطر.
صدمة الأرقام والحقائق التي اطلعت عليها لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ دفعتها لمطالبة الشركات الثلاث الكبرى بإجراءات فعالة للحد من التأثير الذي تصنعه الجيوش الإلكترونية أو تقنيات “البوت” أو الأموال.
تويتر كشفت عن سلسلة تدابير للحد من تأثير الإعلانات السياسية وأوقفت إعلانات حسابي “روسيا اليوم” و”سبوتنيك” (رويترز).
تدابير جديدة
ونتيجة لذلك، أعلنت فيسبوك أنها سترفع عدد العاملين في أمن وسلامة الشبكات لديها إلى عشرين ألفا مع نهاية 2018، بعد أن قررت الشركة قبل نحو شهر وضع إجراءات جديدة ستمكن المعلنين السياسيين من الكشف عن هويتهم وموقعهم، كما ستحمل منشوراتهم توضيحا بشأن “من يدفع مقابل الإعلان”.
تدابير مماثلة أعلنت عنها تويتر قبل أيام، فأعلنت أولا حظر الإعلانات لحسابي وكالة سبوتنيك وتلفزيون روسيا اليوم، وقالت إن القرار استند إلى تحقيق داخلي للشركة، وإلى ما توصلت إليه أجهزة الاستخبارات الأميركية بأن الحسابين حاولا التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية العام الماضي نيابة عن الحكومة الروسية.
كما أعلنت أنها ستدشن موقعا إلكترونيا يتيح للمستخدمين رؤية هوية المشترين ومعرفة مجمل الإنفاق على الدعاية الانتخابية، كما أعلنت شركة غوغل أنها ستتخذ تدابير في السياق ذاته، وهو ما قد يفتح عهدا جديدا للحد من تأثير أموال الدعاية السوداء في تشكيل الرأي العام في مختلف أنحاء العالم.
وبالرغم من أن علاقة منصات التواصل بالتأثير السياسي، أو عبر حجم الأموال التي تنفق للدعاية المعلنة أو الخفية عبرها ليست جديدة، فإن السؤال سيبقى حول حجم المحتوى الناتج عن التفاعل الحقيقي أو عن تفاعل صنعته الأموال أو الجيوش الإلكترونية أو تقنيات الضخ على هذه المنصات “بوت”.
ويبقى سؤال آخر عن الضغوط التي تعرضت لها الشركات في ما يتعلق بالانتخابات الأميركية، وإلى أي مدى يمكن أن ينسحب على مناطق جغرافية من العالم؛ فالدول الأكثر قمعا باتت تستثمر في الجيوش الإلكترونية بهدف التأثير الخفي على الرأي العام لديها، بحجم ربما يفوق استثمارها في الوسائل المعلنة والأكثر بطشا بالرأي العام.
—-
* المصدر: الجزيرة.نت