في أواخر يناير 2018م، أُعلن عن وفاة الشيخ العلامة محمد صالح داموللا الكاشغري، من تركستان الشرقية، في سجون الصين، دون معرفة ما إذا كان قد تم تسليم جثمانه لعائلته أم لا؟ وحتى من غير المعروف هل سُمح بالصلاة عليه أم لا؟ هكذا وسط تعتيم كامل حتى على ملابسات ويوم وفاته، يودع الحياة، في صمت تماماً كحكاية وطنه تركستان الشرقية الذي يحتله الصين منذ عام 1949م ويسميه “شينجيانج”، ويمنع الناس فيه من ممارسة شعائر الإسلام أو مجرد اقتناء مصحف أو سجادة صلاة، ليمثل الشيخ بوفاته تشابهاً كبيراً بحكاية أمة يطويها سور الصين العظيم.
استشهد الشيخ في سجون الصين بتركستان الشرقية، وودعه الآلاف حول العالم بأداء صلاة الغائب عليه، وسط أنباء –لم نستطع التأكد من صحتها- عن خضوعه للاعتقال لنحو أربعين يوماً قبل وفاته، سبقها 15 سنة من الإقامة الجبرية، كانت للشيخ بمثابة الخلوة للبحث والقراءة والتأليف فترك للأمة ميراثاً من العلم تسفيد منه الأجيال ليؤكد أن أمة لم تتعلم هي أمة لا تعيش، لتبقى مثله تركستان الشرقية عصية على “تصيينها” وسلخها من هويتها الإسلامية، كما بقي ابنها الشيخ مخلصاً للعلم ولمبادئه في تعليم أبناء وطنه أمور دينهم.
نشأته
ولد الشيخ محمد صالح داموللا الكاشغري الآرتوجي عام 1939، ببلدة “آرتوج” وهي مدينة قرب “كاشغر”، ومن هنا عُرف الشيخ رحمه الله باسم محمد صالح الكاشغري الآرتوجي نسبة إلى مدينة كاشغر وبلدة آرتوج.
عُرفت أسرته بالعلم، فأبوه الشيخ صالح داموللا بن نظام الدين، كان عالماً بارزاً مفسراً ومحدثاً، وجده كذلك، فكان الشيخ محمد أصغر أشقائه البنين، وهم: عبدالحكيم، وعبدالحي، وعبدالرحمن، وتصغره شقيقة واحدة، زرع فيهم أبوهم حب العلم، ليستكملوا رسالة الدعوة وليحملوا تعاليم الإسلام إلى الناس.
تلقى معارفه الأولى على يد والده وعلماء بلدته أمثال الشيخ ملا عاشور خلفتم، والشيخ فاضل قاري، والعلامة زين العابدين داموللا، والشيخ أحمد خطيب حاجي المشهدي، إذ كان أبوه قد عاد عام 1940 إلى مدينته آرتوج، وأسس بعدها مسجداً ومدرسة أهلية في قرية “تختيون”، نظام الدراسة بها 5 سنوات يحصل بعدها الطالب على إجازة بالتدريس، فكان الشيخ محمد أول من أتم حفظ القرآن في مدرسة والده فحفظه خلال عام واحد وعمره 11 سنة، ثم بدأ في تعلم اللغتين العربية والفارسية.
دائماً كان أبوه يشجعه على حب العلم حتى بنصائح منظومة شعرياً ومما كتب له:
مسائل النحو في ألفية جمعت فيها قواعد ما من غيرها سمعت
محمد قد تسمى باسم جامعها فذا دليل على عليائه ارتفعت
فدرس أمهات الكتب الدينية والأدبية وهو لا يزال صبياً، حفظ “ألفية ابن مالك” و”لزوميات” المعري، و”المعلقات السبع”، وغيرها، وكان يكتب الشعر بالعربية في سن صغيرة، إذ ورث موهبة الشعر عن والده، وظل حاملاً لفضل والده وكتب فيه أشعاراً، منها:
كنت أستاذي وشيخي يا أبي بك قد حققت أشهى مأربي
عشت في أعماق قلبي رائجاً لم يغب ذكراك عني يا أبي
في عام 1956 التحق بمعهد العلوم الإسلامية في بكين، وهناك تتلمذ على يد علماء من الأزهر الشريف أمثال د. بهي الدين الزياني، والشيخ حامد سليمان، وأخذ عنهم العلوم الشرعية والعربية، لكن في عام 1957 توفي والده الشيخ صالح داموللا، فاضطر الشيخ محمد للعودة إلى آرتوج، وتأثر كثيراً برحيل والده، فانقطع عن الدراسة لستة أشهر تقريباً، ثم عاد مجدداً إلى المعهد وواصل دراسته، كما تعلم هناك اللغة الصينية، حتى تخرج بتقدير ممتاز من المعهد.
وهنا يحكي أحد تلاميذه لـ”المجتمع”، أن الشيخ محمد رحمه الله قد لاقى إعجاب مدرسيه في المعهد حتى أنهم نصحوه بالذهاب إلى الأزهر في مصر للدراسة هناك، وفي المعهد كان القائمون على مكان الإعاشة يطفئون الأنوار مبكراً لينام الطلاب، فكان الشيخ يراجع حفظه في الظلام.
العمل لا يمنع مواصلة التعلم
بعد التخرج في المعهد وحصوله على البكالوريوس، رجع الشيخ إلى “أورومتشي” عاصمة تركستان، وعُين في معهد البحوث الدينية التابع لأكاديمية العلوم الاجتماعية، لكنه إلى جانب عمله لم يتوقف عن تحصيل العلم ومواصلة التعلم على يد علماء تركستان.
استفاد الشيخ محمد من عمله بالأكاديمية، في نشر العلوم الشرعية وتعليم الناس، على عكس غيره من العلماء الذين لم تتح لهم مثل هذه الفرص نظراً لتضييق السلطات الصينية على العلماء غير المنضمين لمؤسسات رسمية وتمنعهم من ممارسة دورهم في تعليم الناس أو تحفيظ القرآن، لاسيما في المدارس الأهلية والمساجد.
معهد العلوم الإسلامية في أورومتشي
هو المعهد الوحيد من نوعه في تركستان الشرقية “شينجيانغ” أنشئ عام 1987، ومدة الدراسة فيه خمس سنوات، أنشأته السلطات الصينية كمؤسسة رسمية لتخريج الأئمة والعاملين بالتدريس، ولما كان للشيخ محمد صالح مكانة كبيرة وشهرة في الدول العربية والإسلامية وضعته الصين على رأس إدارة هذا المعهد للاستفادة من شهرته وإظهارها أنها تفتح أبواب الحرية للمسلمين، وهنا أصر الشيخ عند تأسيس المعهد أن يكون تصميمه المعماري على الطراز الإسلامي وهو ما كان بالفعل.
جاءت بعد ذلك مرحلة وضع المناهج الدراسية للمعهد، وكان الشيخ أمام إشكالية مزدوجة، فمن جهة هو يعلم لو أن المناهج جاءت مقربة من الصين تتماهى مع سياستها، فإن هذه المناهج ستساهم في سلخ الشعب التركستاني عن هويته الإسلامية، ومن جهة أخرى لو جاءت المناهج ضد الصين وسياساتها صراحة، فإنها ببساطة لن تسمح بأن يعمل المعهد من الأساس، كان هناك تحدٍّ آخر يواجه الشيخ أثناء إعداد المناهج، فهو حريص على وضع مقررات دراسية تناسب ما بين التراث الإسلامي والعلوم المعاصرة والربط بينهما بما يفيد الأجيال والدارسين في معرفة تراثهم وفي الوقت نفسه معرفة العلوم المعاصرة لملائمة الحياة وتطوراتها، في النهاية وفقه الله في وضع مناهج جمعت استحسان الجانبين، وهنا عرض الشيخ على السلطات الصينية أن يتم عقد دورة تدريبية للشيوخ والمدرسين الذين سيقومون بالتدريس في المعهد، لكنه كان في حقيقة الأمر يهدف لعرض هذه المناهج على المدرسين للاستفادة من آرائهم، لاسيما وأن بعضهم يميل إلى كتب التراث أكثر من العلوم المعاصرة، ونجح الشيخ يرحمه الله خلال هذه الدورة في إقناع المدرسين بأهمية الجمع بين التراث والمعاصرة وأهمية ذلك ورجح الأئمة جميعهم ما ذهب إليه الشيخ محمد صالح، واعتمد تدريس اللغة الصينية والعلوم السياسية بجانب العلوم الشرعية، وحقيقة يظهر هذا الفكر مدى رجاحة عقل الشيخ وحنكته وحرصه أيضاً على الاستفادة من آراء غيره، وإلى جانب توليه إدارة المعهد كان الشيخ يدرس فيه مواد الحديث والتفسير والأدب العربي، ومما يرويه تلاميذه أنهم وبينما هم ينظرون في الكتب كان الشيخ يحفظ الكتب عن ظهر قلب ويشرح المنهج دون النظر في كتاب.
لم يتوان الشيخ رحمه الله عن فتح الباب أمام العلماء الآخرين والاستفادة من علمهم، على سبيل المثال كان الشيخ عبدالحكيم مخدوم، وهو عالم كبير لديه مدرسة أهلية يدرس فيها على يديه نحو ثلاثة آلاف طالب، لكن السلطات الصينية أغلقت المدرسة، فساعده الشيخ محمد صالح على العمل بالتدريس في المعهد، لينهل الطلاب من علمه، لكن بعد مرور 6 أشهر رفضت السلطات الصينية استمرار مخدوم في المعهد، فتدخل الشيخ محمد لتعيين علماء من تلاميذ الشيخ مخدوم بالمعهد، ولم يتعرض لهذا التعسف الشيخ مخدوم وحده بل كثير من علماء تركستان الشرقية، ولعل في هذا جانباً ولو بسيطاً عن اضطهاد الصين للعلم والعلماء وأئمة المساجد.
مبادئ لم تطو
ولما كان الشيخ مخلصاً لدينه وأمته ولمبادئه، وحريصاً على هوية مسلمي تركستان الشرقية، وفشلت الصين في جعله داعماً لسياساتها، أُجبر على ترك إدارة المعهد والتدريس فيه عام 2001، وهو ما ظهرت نتائجه لاحقاً على مستوى المعهد وتقدمه العلمي، الذي كان الشيخ قد أسس له.
زار الشيخ العديد من البلدان العربية والإسلامية منها مصر وتونس والسودان والسعودية والجزائر والمغرب وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية، وفي عام 1991 تم تكريمه في مصر ومنحه رئيس الجمهورية وقتها حسني مبارك “وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى”، وفي عام 1992 رشح لنيل جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، وخلال زياراته ومشاركاته في المؤتمرات التقى بكبار العلماء في العالم الإسلامي، ورؤساء العديد من الدول، كما زار تركيا وبلدان أوروبية.
إسهاماته العلمية
أثرى الشيخ محمد صالح المكتبة الأويجورية والعربية بالعديد من المؤلفات والتراجم، وهو كان عالماً موسوعياً له مؤلفات في الحديث والتاريخ والأدب باللغتين العربية والأيجورية، وبعض مؤلفاته لم تنشر بسبب تعنت السلطات الصينية، كما أن له تحقيقات في كتب التراث في الأدب مثل ديوان “محبتنامه” وديوان “توتنامه” وغيرهما، وشكلت مؤلفاته وتراجمه مرجعاً لأبناء تركستان الشرقية في فهم أمور دينهم، فألّف وترجم في التفسير والحديث والسيرة النبوية واللغة، وكتب أبحاثاً ومقالات وقصائد، ومن مؤلفاته وتراجمه:
ترجمة جواهر البخاري، وشرح القسطلاني، وترجمة نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، وصحيح البخاري، والأدب المفرد للبخاري، وترجمة رياض الصالحين وشرحه، وألف قاموساً عربياً أويجورياً وهو يقع في مجلدين، ترجمة معاني القرآن الكريم، الدر المنضد من قصائد الوالد والولد، تفسير جزئي تبارك وعم، معجم عربي أويجوري.
ترجمة معاني القرآن الكريم
للشيخ محمد صالح ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأويجورية، تمت مراجعتها ثلاث مرات من قبل العلماء المختصين في هذا الشأن، وطبعت في العديد من الدول تخطت مليون نسخة، فشرع الشيخ رحمه الله في ترجمته في الثمانينيات، وتقديراً لقداسة القرآن كان الشيخ حريصاً على التروي في الترجمة، وكان يقول: “إن القرآن الكريم هو دستور المسلمين وترجمته ليست بالأمر الذي يتم على عجلة”.
بدأ الشيخ بترجمة بعض الأجزاء، ثم كانت له زيارة إلى الكويت والسعودية ضمن رحلة علمية، فاستفاد من نصائح العلماء ومن بينهم الشيخ ابن باز الذي أوصاه بمراجعة التفاسير القرآنية، وأشار عليه بتفسير “الجلالين”، ولما انتهى الشيخ من الترجمة، عرضها على 13 من علماء وأئمة تركستان فأقروها وتمت طباعتها الأولى عام 1986 في نحو مائتي ألف نسخة.
الطبعة الثانية كانت في “مجمع الملك فهد” بالمملكة العربية السعودية عام 1992، إذ تم عرض الترجمة على ثلاثة من علماء الأويجور الكبار المقيمين في السعودية لمراجعتها تحت إشراف “رابطة العالم الإسلامي”، وهم الشيخ عبدالمجيد صادق الأبادي، مدرس في المسجد النبوي، ود. عبدالرحيم محمد الكاشغري، أستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وصالح إيشان، الذين أشادوا بالترجمة ولم تكن لهم ملاحظات سوى فقط كتابة “لفظ الجلالة” (الله) باللغة العربية في الترجمة إلى جانب كتابتها بالأويجورية.
المرة الثالثة جرى طباعتها في تركيا من قبل رئاسة الشؤون الدينية، بعد مراجعتها على يد علماء من الأويجور في تركيا عام 2017.
مصادرة المصاحف
لكن الترجمة المطبوعة في مجمع “الملك فهد” تمت مصادرتها من قبل السلطات الصينية قبل سنوات في تركستان الشرقية، ومؤخراً تمت مصادرة كل الطبعات سواء كانت طبعة بكين التي كان مسموحاً بها فيما قبل، أو الطبعة التركية، إلى جانب مصادرة المصاحف عموماً وسجادات الصلاة.
وفي السجن خلوة
بعد وضع الشيخ قيد الإقامة الجبرية منذ عام 2002، تفرغ للبحث والقراءة والتأليف، وعن يومه كيف كان يقضيه، يقول أحد تلاميذه لـ”المجتمع”: كان الشيخ يبدأ يومه مع صلاة الفجر، يصلي ثم يبدأ القراءة والبحث والتأليف وكان في بعض الأيام يواصل القراءة والكتابة لـ13 ساعة كاملة، وفي أثناء ترجمة معاني القرآن كان ينام حوالي 5 ساعات يومياً، ونظراً لضيق الوقت كان الشيخ يراجع القرآن ويختم قراءته في صلواته، كما كان يخصص جزءاً من يومه للإجابة عن استفسارات الناس حول أمور دينهم.
ومن أسرة الشيخ ابنته نظيرة وزوجها قيد الاعتقال منذ نحو الشهر، ولا تزال معاناة الأسرة، مع استمرار معاناة الوطن الواقع في وسط آسيا، ويتكون من قوميات مختلفة أغلبها من الأويجور إلى جانب التركمان، والكازاخ، والأوزبك، والطاجيك، وجميعهم ينتمون إلى العرق التركي، محرومون من التعليم الإسلامي ويقبع الآلاف من أبنائهم في السجون، تحت سطوة قوانين وممارسات عنصرية تستهدف الهوية الإسلامية لتبقى تركستان الشرقية حكاية كبيرة من المعاناة مطوية خلف سور الصين العظيم.