ينهض “النموذج” بدور محوري في تحديد “الأسوة والقدوة”، التي تنهض بدور البوصلة المحددة والمرشحة لتوجهات الإنسان في مختلف ميادين الحياة.. ففي الأسرة “نموذج الأب”، وفي الأمة “نموذج البطل”، وفي التاريخ “نماذج الانتصارات”، وفي العلاقات الدولية والإقليمية “نموذج الوطن”، وفي العقائد والأيديولوجيات “نموذج الدين”… إلى آخر “النماذج” التي تأسر الإنسان على توجُّه بعينه وطريق بذاته عند مفترق الطرق، وتعدد الخيارات.
وفي اللحظة التي يتم فيها اختيار “النموذج”، يحدث الإفصاح والإعلان عن انتماء “الذات” ومن ثم تميزها عن “الآخر”، الذي عدلت عن اختياره نموذجًا في هذا الميدان من ميادين الاختيار.
والميدان الثقافي ليس فقط مجرد واحد من هذه الميادين التي يتم فيها اختيار الإنسان نموذجًا دون آخر، بل إن “النموذج الثقافي ” يكاد أن يكون بعد اختياره، والانتماء إليه، والولاء له، المعيارَ الذي يحدد ويرجح “النماذج ” التي يختارها الإنسان في العديد من المجالات والكثير من الميادين، فالثقافة التي صنعت هوية الإنسان هي الموجِّه لاختياراته النماذج الأسوة ومناهج القدوة والمثل والمعالم التي تجعله يوالي هذا ويعادي ذاك، وينشط لهذا المقصد ويعدل عن سواه، ويضحي في هذا السبيل ولا يلتفت إلى ما عداه، و”النموذج الثقافي” هو محدد “النموذج المستقبل” الذي يسعى الإنسان لصنعه، وتحقيقه في الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه. الذات والآخر.. ثقافيًّا وإذا كان الله، سبحانه وتعالى، قد خلق الناس جميعًا من نفس واحدة، فقد اقتضت حكمته، وحتى يتم استباق الناس على طرق الاستعمار للأرض، وتنافسهم في تحصيل المنافع، وتدافعهم لحيازة الخيرات المادية والمعنوية، شاء، سبحانه أن تتوزع البشرية إلى تعددية في الشعوب والقبائل والأمم والألسن والألوان والمناهج والشرائع، ومن ثَمَّ في القوميات والثقافات.
وإذا كانت “الذات” إنما تُعَرَّف بالسمات الثوابت التي تميزها عن “الآخر”، وليس بالمشترك الذي يجمعها بهذا “الآخر”. وبما أن واقع أمتنا العربية الإسلامية، الحديث والمعاصر، هو واقع الاحتكاك والتدافع الثقافي والحضاري مع النموذج الغربي تحديدًا، ودون أي “آخر ” سواه، فإن الحديث عن “الذات ” و”الآخر”، ثقافيا، لا بد أن يقود إلى تحديد المعالم المميزة للنموذج الثقافي الإسلامي عن النموذج الغربي، دون أن يعني ذلك إنكار ميادين المشترك الإنساني العام في العديد من العلوم والمعارف التي لا تدخل حقائقها وقوانينها وثمرات معارفها وتجاربها في “المميز للذات الثقافية”، وإنما تدخل في “الجامع ” الذي تتفاعل فيه وتتشارك “الذوات الثقافية ” للإنسانية جمعاء.
الإسلام مكوّن ذاتيتنا الثقافية
فالإسلام هو المكون لذاتيتنا الثقافية، والمحدد لمعالم نموذجنا الثقافي، وتميزنا عن “الآخر ” الغربي قائم فقط حيث يكون التميز والافتراق؛ الأمر الذي يجعل علاقة نموذجنا الثقافي -الذات الثقافية- بالآخر هي علاقة “التميز والتفاعل”، التي هي وسط عدل متوازن بين غلوَّين: غلو الإفراط، الذي يرى هذه العلاقة علاقة “قطيعة وتضاد”، وغلو التفريط، الذي يراها علاقة “مماثلة ومحاكاة “. فكما تميز “البصمة ” الإنسان عن بني جنسه، مع اشتراكه معهم في جنس الإنسان، كذلك تتميز الذات الثقافية للأمة عن الذوات الثقافية الأخرى، بتميز النماذج التي يجمع كل منها معالم المغايرة والسمات الفارقة لنموذج ثقافي عن سواه، وذلك دون إنكار أو إغفال لميادين الاشتراك الإنساني في كثير من حقائق وقوانين الكثير من التجارب والخبرات والعلوم والفنون.
كلٌّ يأخذ بحساب
والمسلمون انفتحوا على الحضارة الهندية، لكنهم أخذوا عن الهنود الفلك والحساب، دون الفلسفات والثقافات، وكذلك صنعوا في انفتاحهم على الفرس، عندما أخذوا عنهم التراتيب الإدارية، ورفضوا مذاهبهم الفلسفية وعقائدهم الدينية، وعن الرومان البيزنطيين أخذوا تدوين الدواوين، ولم يأخذوا القانون، وكذلك الحال في الانفتاح على تراث الإغريق، فلقد أخذ المسلمون العلوم التجريبية التطبيقية المحايدة، وأهملوا النظر في إلهيات اليونان، بل أهملوا النظر في الآداب الإغريقية لما حملت من أساطير وثنيتهم ولما جسدت من روح الوثنية في ذلك التراث. وذات القانون نراه فاعلاً إبان انفتاح النهضة الأوروبية على تراثنا الإسلامي، فلقد أخذوا العلوم التجريبية، التي طورها المسلمون، وأخذوا إبداع أسلافنا في المنهج التجريبي والملاحظة والاستقراء، وهو الذي فتح به المسلمون باب التجاوز للقياس الأرسطي، لكنهم -الأوروبيين- لم يأخذوا نموذجنا الثقافي الإسلامي، بل أحيوا النموذج الإغريقي مع استلهامهم من تراثنا العلوم الطبيعية والمنهج التجريبي، فنهضوا كامتداد متطور للإغريق والرومان، ولم يقفوا من نموذجنا الثقافي الإسلامي موقف المحاكاة.
نموذج ابن رشد
كان تعامل النهضة الأوروبية مع فيلسوفنا أبي الوليد ابن رشد -الحفيد- (520 – 595هـ/ 1126 – 1198م) نموذجًا لإعمال هذا القانون الذي حكم العلاقة الصحية والطبيعية بين النماذج الثقافية المتميزة للأمم المختلفة، فأخذوا “ابن رشد: الشارح لأرسطو ” -لأن هذه بضاعتهم ردت إليهم- ورفضوا بل وأصدروا مراسيم التحريم على “ابن رشد: الموفق بين الحكمة الإنسانية وبين الشريعة الإسلامية”، و”المتكلم، الذي أقام العقيدة الدينية على العقلانية المؤمنة”، و “الفقيه الذي كان يقضي بين الناس بشريعة الإسلام وفقهها ” لأن هذا النموذج الثقافي الإسلامي، أو “الرشدية الإسلامية ” كان مغايرًا للنموذج الثقافي “للرشدية اللاتينية ” تلك التي استبدلت العلمانية باللاهوت، وألّهت العقل، عندما أصبحت عبارة “لا سلطان على العقل إلا العقل ” هي شعار فلسفة التنوير! بل إن بواكير نهضتنا الحديثة، وخاصة تجربة مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي تحت حكم محمد علي باشا الكبير (1184 – 1265هـ/ 1770 – 1849م)، جسدت إعمال هذا القانون في علاقة الذات الثقافية ونموذجها بالآخر الثقافي ونموذجه. فرفاعة رافع الطهطاوي (1216 – 1290هـ/ 1801 – 1873م) هو الذي دعا إلى التتلمذ على أوروبا في “العلوم الحِكْمِيَّة العملية، والمعارف البشرية المدنية التي لها مدخل في تقدم الوطنية، لأنها، وإن ظهر الآن أنها أجنبية، هي علوم إسلامية، نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية، ولم تزل كتبها إلى الآن في خزائن ملوك الإسلام كالذخيرة” فدعا رفاعة الطهطاوي إلى التفاعل مع معارف وحقائق هذه العلوم مع إحياء النموذج الثقافي الإسلامي “بنشر السُّنة الشريفة، ورفع أعلام الشريعة المنيفة” بل لقد أكد الطهطاوي تميز النموذج الثقافي الإسلامي عن النموذج الأوروبي، عندما قال: إن لهم في “الفلسفة حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، وهم من الفِرَق المحسِّنَة والمُقَبِّحة بالعقل والنواميس الطبيعية وحدهما.. أما نحن المسلمين فليس لنا أن نعتمد على ما يُحَسِّنَهُ العقل أو يُقَبِّحَهُ إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه، فتحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا قرره الشرع”.
فعندما تكون العلاقة صحية، وقائمة على الاختيار الحر، وعلى التكافؤ، بين الحضارات، ينهض النموذج الثقافي بدور المعيار الذي يحدد نطاق “التفاعل، والاستلهام”، وحدود “التمايز، والخصوصية”، فتكون العلاقة الصحية والطبيعية بين “الذات ” وبين “الآخر ” في الميدان الثقافي.
ولهذا الوضوح في تميز النموذج الثقافي الإسلامي عن النموذج الأوروبي، عند الطهطاوي، وفي تجربة مصر على عهد محمد علي، رأينا الطهطاوي عقب عودته من باريس سنة 1931م يقدم إلى المطبعة مشروعين لقائمتين من الكتب: مشروع لإحياء أمهات كتب التراث الإسلامي، ومشروع لترجمة علوم التمدن المدني الأوروبي الحديث، ووجدنا كذلك، جميع المبعوثين الذين ابتعثتهم الدولة إلى أوروبا في عهود محمد علي، وعباس، وسعيد يذهبون للتخصص في العلوم الطبيعية التي تغير الواقع، ولم يذهب منهم مبعوث واحد ليدرس الإلهيات أو الآداب والفنون أو الإنسانيات التي تصوغ وجدان الإنسان وتشكل عمران النفس الإنسانية؛ لأن هذه المهمة هي اختصاص النموذج الثقافي الإسلامي دون سواه!
فلما انتكست التجربة، وهيمن الاستعمار، انعكست الحال، فحرمنا من العلم الأوروبي الذي نحتاج، وأُمطرنا بألوان النموذج الثقافي “الآخر” بدلاً من نموذج “الذات”!.
_____
* المصدر: إسلام ويب.