لقد شاع في سيرة الحبيب المصطفى وسُنَّته العطرة أنه كان مِعطاءً جوادًا في سائر الأيام، وأجود ما يكون في رمضان: شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران؛ وذلك لما رواه البخاري في صحيحه عن ابْنِ عَبَّاسٍ قال: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ”؛ (البخاري/ بدء الوحي).
هذا الحديث أصلٌ في باب الجُود والكرم الذي كان يتمتَّع به صلى الله عليه وسلم، وفيه من البيان الشيءُ الكثيرُ لما ينبغي أن يكون عليه كل مُتَّبِع لسيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم من امتثال للخير في هذا الشهر المبارك، ولما ينبغي الحرص عليه أيضًا في هذه المناسبة العظيمة؛ تحقيقًا للمقاصد الإسلامية السامية المتمثِّلة بالأساس في تحقيق التآزُر والتكافُل والتضامُن بين مختلف شرائح المجتمع.
إننا – بالرجوع إلى سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، والوقوف على مظاهر جُودِه وكرمه – يمكن أن نلمس مِن فعله صلى الله عليه وسلم ذكاءً فريدًا في العطاء، ومنهجًا عجيبًا في الجُود والسخاء، من مظاهره:
تحرِّي الوقت الدقيق والمناسب لمضاعفة الأجر والثواب: ذلك أن أغلب العبادات لها أوقات تُضاعَف فيها الحسناتُ، وتكون أدعى للقَبول منه سبحانه؛ كالدعاء أثناء السجود أو الصلاة في الثُّلُث الأخير من الليل، أو قيام ليلة القَدْر، أو غير ذلك من الأوقات التي لا ينبغي الإغفال عنها، ونفس الشيء بالنسبة للجُود؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم جوَادًا، وكان يُبالغ، ويُكْثِر منه في رمضان مراعاةً لخصوصية هذا الشهر الكريم، وهذا مِن فِطنته وذكائه صلى الله عليه وسلم.
اعتبار القرآن الكريم مُلْهِمًا ودافِعًا لكل خير: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل يراجعه القرآن الكريم بانتظام في رمضان – كان يجعل منها بالإضافة إلى المراجعة فرصةً لشحْذ الهِمَّة، ولزيادة وهج القلب بالنور الإلهي الداعي إلى كل خير.
المسارعة في الجود: ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان أسرع من الريح المرسلة في الامتثال لأوامر الله جملةً، ولفعل الخير والسخاء خاصة؛ وذلك نتيجة لما يجده في القرآن، ولما يراجعه فيه على يد جبريل الحكيم، كيف لا وهو يمرُّ على قوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 133، 134]؟! فلم يكن صلى الله عليه وسلم يتوانى في العطاء والحث والحرص عليه ولو بشِقِّ تَمْرَة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: “اتَّقُوا النارَ ولو بِشِقِّ تَمْرةٍ” (رواه البخاري).
التحلِّي بأخلاق القرآن: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجود ويساعد الناس، كان يجود بذكاء، ومن ذكائه صلى الله عليه وسلم التحلِّي والالتزام بما جاء في القرآن الكريم من توجيهات وإرشادات، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر:
الإخلاص وجعل العمل لله سبحانه دون سواه، وعدم انتظار المقابل لسبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يجد فيما يراجع من القرآن: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، فكيف يُشرِكُ مع الله أحدًا في عطائه؟
الإسْرار بالعطاء؛ تفاديًا لإحراج المتصدِّق عليه، وحمايةً للنفس من التخبُّط في الرياء، كيف لا وهو يقرأ ويراجع: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]؟!
تجنُّب المنِّ والأذى: إذ لم يثبُتْ عنه صلى الله عليه وسلم أنه مَنَّ على أحد أو تسبَّب له في أذًى وهو يُذكِّره بعطائه، وهذا من ذكائه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا محالة يجد فيما يراجعه من القرآن أن المنَّ والأذى يحبط الأعمال ويجعلها صفرًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].
الحرص على الجود بما هو أنفس وأحب للنفس: وهذا أيضًا من ذكائه عليه السلام وفِطنته؛ إذ لم يثبت عنه أنه تصدَّق بالرديء، أو بما لا قيمة له، كيف لا وهو يجد أيضًا في الذكر الحكيم: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]؟!
الجود بكل ما هو طيب، وتجنُّب التقرُّب إلى الله تعالى بكل ما هو خبيث ومحرَّم، كيف لا وهو القائل صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا))؛ (صحيح مسلم / الزكاة)؟!
إننا وبتأمُّل هذه الخصال النبوية الشريفة في تقديم العطاء والجود على المحتاجين والفقراء، نلمس ذكاءً عجيبًا منه صلى الله عليه وسلم، وحكمةً بالغةً في تصرُّفاته الهادفة، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على الإخلاص، ومتجنِّبًا لكل ما يمكن أن يُؤذي الناس، أو يُغضب ربَّ الناس، وهو المنهج الذي ينبغي لكل مسلم جوَاد أن يسير عليه متجنِّبًا كُلَّ ما يمكن أن يُحبط عمله، ويُوقِعَه في الغباء؛ كحُبِّ المدح والرياء، أو الوقوع في المنِّ والأذى بعد تقديم العطاء، وما إلى ذلك من التصرُّفات التي لا محالة تحبط الأعمال، وتجعلها صفرًا، وبعيدةً عن المقاصد العظمى والغايات المثلى التي كان يتحرَّاها صلى الله عليه وسلم بذكاء وفِطنةٍ.
المصدر: “الألوكة”.