يعاني كثير من المسلمين في كثير من دول العالم إما بفعل تكالب الأعداء عليهم، أو الفرقة والتشتت وأعباء الحياة المحيطة بهم بخاصة في ظل سيادة حضارة استهلاكية غربية على العالم، وهي تشجع على الانفاق على سلع تزداد وتكثر بخاصة مع تقدم الأبناء في العمر واجتيازهم مرحلة الشباب .. ومع الرغبة في إتمام تعليمهم وتزويجهم.
يعاني كثير من المسلمين من ضراوة التكاليف والتبعات الملقاة على عواتقهم؛ سواء أكانوا في بلاد مسلمة ـ سلمها الله وأدام عليها نعمة الأمن ـ أو في أخرى يعاني شرفاء فيها من تبعات ـ نسأل الله أن يعافيهم منها وأن ينعم عليهم بالامن والطمانينة.
وفي استعادة مسير موكب الصابرين تهيم الروح طلبًا لرضا ربها، ولكي تجتاز متاهة الحياة بالتوفيق وفي أقصى بقعة من عميق الشعور قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) الآية (10) من سورة الزمر.
والمؤمن الصابر على ما يصيبه في دنياه؛ المُتوكل على مولاه إنما يجازيه بصبره ربه ـ سبحانه وتعالى ـ الأجز الجزيل الوفير الذي لا حساب فيه وإنما عطاء بقدر كرم الله تعالى، كما في الآية الكريمة.
وفي موكب الصابرين ترتاح الروح إلى كريم ورائع دوحة الأنبياء والرسل الذين روا رب العزة قصصهم الكريمة في كتابه العزيز على رسوله، صلى الله عليه وسلم: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) الآية (120) من سورة هود.
فمع سيرة آدم ـ عليه السلام ـ إذ يُبتلى بـ”قابيل” ابنًا يُصر على قتل أخيه “هابيل” أخيه بلا جريرة جناها الأخير .. سوى أن الله تقبل قربانه و(قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) من الآية (27) من سورة المائدة.
وتمضي مسيرة الذين فضلوا الحياة الآخرة على الدنيا، واختاروا ما لدى الله تعالى على متع وزينة ولهو الحياة الدنيا، وتسير الروح فتتمثل نبي الله “نوح” ـ عليه السلام ـ إذ يدعو إلى سبيل ربه ألف سنة إلا خمسين (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)) سورة العنكبوت.
ويضطر نبي الله إلى صناعة الفلك .. سفينة كبرى فيما هو يحيا في الصحراء، ووسط ضحكات وغمزات وسخرية قومه يمضي في صناعة السفينة وملء قلبه أن الله ناصره؛ فيهبه الله أرضًا جديدة مؤمنة ويحيط بقومه من الكفار الظالمين.
ولكن مع إقلاع السفينة العملاقة وهي تحمل على متنها من جميع المخلوقات زوجين اثنين ضمانًا لاستمرار الحياة فوق ظهر الأرض يفاجئ “نوح” ـ عليه السلام ـ بأن ابنه ليس على متن السفينة .. بل يراه هناك بعيدًا .. يقف في معزل؛ فيناديه لكي يركب معه ومع مُمثلي جميع المخلوقات فيأبى الابن ويرفض في تصميم رادًا على أبيه 🙁 قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) الآية (43) من سورة هود.
وفقد “نوح” الابن في خضم الطوفان فيأخذه بعض من الحنان عليه فيدعو الله رافعًا كفيه إليه بالضراعة: (وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) الآية (45) من سورة هود.
إن نبي الله “نوح” عليه السلام يرى أن ابنه واحد من أهله أي أهل النسب والرحم؛ وأن وعد الله له بإنجاء وسلامة أهله إلى ارض الإيمان سارٍ ومستمر فيجيئه الأمر الإلهي على الفور ليعلمه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ الآية (46) من سورة هود.
ورغم آلام الفقد وأحزنه سرعان ما يعود سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ إلى ربه مستغفرًا متحليًا بأدب النبوة العميق الاحترام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) الآية (47) من سورة هود.
أما وعد الله بإنجاء أهل نوح فكان له استثناء لم يشمل الابن فحسب بل زوجة “نوح” أيضًا، فيقول تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) من الآية (40) من سورة “هود”.
وبحسب تفسير “القرطبي” ـ في أحد الأوجه ـ أن العرب تسمي وجه الأرض تنورًا، ولما رأى سيدنا “نوح” الماء على وجه الأرض عرف أن موعود ربه جاء أوانه؛ وقد حكم تعالى أن من أهل “نوح” مَنْ سيسبق عليه القول فلا يؤمن .. ومن هؤلاء ابنه.
ونبي الله “نوح” كان يدعو الناس إلى الإيمان؛ فما آمن معه إلا قليل في تسعمائة وخمسين عامًا، ولكن من أشد الأمور إيلامًا على نفسه إذ يخرج من الأرض الكافر أهلها هو عصيان ابنه وفلذة كبده له .. بل وفاته كافرًا غريقًا رغم نداء أبيه عليه في اللحظات الأخيرة ونصحه له!
وكذلك كان أحد أبناء سيدنا “آدم” من قبل .. هام في البرية بعد قتل أخيه وعجزه عن مواراة سوءته أو دفنه لولا أن بعث الله غرابًا يعلمه.
وأضيفت إلى أحزان “نوح” ـ عليه السلام ـ خيانة امرأته له .. فلم تتبع ـ هي الأخرى ـ عقيدته بل أصرت على الموت كافرة.
أما رد فعل اثنين من أنبياء الله على الابتلاء العظيم، والامتحان الصعب العسير بفقد الولد؛ واجتماع فقد الزوجة مع الولد في حالة سيدنا “نوح” فما كان رد فعل النبيين ـ عليهما السلام ـ سوى الصبر على أمر الله والتسليم بحكمه وقضائه.
وكان عاقبة الصبر في الحياة الدنيا تعويض الله لسيدنا “آدم” بابن وابنة آخرين؛ وحياة سيدنا “نوح” في سلام على أرض الإيمان.
إن روح هذه الحياة الدنيا المعاناة تتطلب صبرًا شديدًا عليها؛ فلا تجتمع الدنيا لأحد؛ ولا يرتاح فيها إنسان ـ مهما كان؛ بل تظل المعاناة فيها إلى ما شاء الله تعالى، كي يشتاق الواحد منا ويعمل للوصول إلى ما لدى ربه؛ وإن لقي ما لقي من مصاعب هذه الحياة الفانية ولنا في نبيين كريمين “آدم ونوح” ـ عليهما السلام الأسوة والقدوة.