– تفاوتت رعاية الأمراء لمقاصد الشريعة على مر العصور حسب رشادة الحكم في عصوره المختلفة
– محمد عبده هو الذي أحيا الاهتمام بالفكر المقاصدي حديثاً حيث كان عصره تطويراً ونهضة
– كان ارتباط الفكر المقاصدي مكثفاً في فترات المواجهة مع أعداء الأمة والجهاد ضد المحتلين
– لا حياة لنا ولا أمل لاستنقاذ أمتنا والإنسانية كلها إلا بتحكيم مقاصد الشريعة في حياتنا
اهتم علماء الإسلام على مر العصور بمقاصد الشريعة وتفعيلها، وهي الغايات التي شرع الله لأجلها الأحكام لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وكان اهتمامهم على مستوى التعامل مع النصوص وفهمها، وعلى مستوى تفعيلها في المستجدات والتعامل بها مع النوازل المعاصرة.
تفاوتت رعاية الأمراء لمقاصد الشريعة على مر العصور بحسب رشادة الحكم في عصوره المختلفة؛ حيث كانت في قمتها في عهد النبوة، وعهد الخلافة الراشدة مع نزول في منحنى الرشادة بشكل طفيف وبخاصة في نهايتها، ثم نزل بشكل ملحوظ في العصور اللاحقة التي تحولت لملك عضوض انتقص فيه النظام السياسي من رشد الحكم حين تم تحويله من خلافة راشدة إلى ملك تم الانتقاص الظاهر فيه من فريضة الشورى، إلى أن وصلنا للحكم الجبري الذي يناقض مقاصد الشريعة ويوجب تغييره والثورة عليه.
أما الفقهاء والعلماء فلم يخلُ عصر –في مجمل عصور الإسلام– من اهتمام بالفكر المقاصدي؛ استلهاماً لنصوص القرآن والسُّنة، وسعياً لتحقيق فاعليتها في واقع المسلمين، وكان الاستدعاء الأبرز للفكر المقاصدي مرتبطاً بعلماء إصلاحيين ومجددين وفترات نهضة وتطوير، وحسبنا أن الذي أحيا الاهتمام بالفكر المقاصدي عموماً في عصرنا هو الإمام محمد عبده الذي كان عصره عصر تطوير ونهضة، فكان له الفضل في لفت الأنظار إلى الشاطبي وجهوده المقاصدية، وتنفيض التراب عن الموافقات، وطبعه وتدريسه وتوصيته به، ثم تبعه بعد ذلك تلامذته الذين أسهموا بنصيب وافر في هذا المجال أمثال ابن عاشور، والفاسي، والخضري.
وقد كُتب كتاب «مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي.. قسم العبادات»، في عهد تطوير الأزهر وتعديل مناهجه -كما قال المؤلفان- بما يتلاءم مع فلسفة العصر وحاجة المجتمع(1)؛ حيث إن البحث عن أسرار التشريع -كما جاء في الكتاب- كانت وليدة الحاجة إليه في العصر الحاضر، وفي العصور الأولى كان البحث مقصوراً على استنباط الأحكام والدفاع عنها، ودفع الشبهات والاعتراضات الواردة عليها، ولا يتحدثون عن الحكمة قصداً، بل كانوا يذكرونها عرضاً(2).
كان ارتباط الفكر المقاصدي مكثفاً كذلك في فترات المواجهة مع أعداء الأمة، والجهاد ضد المحتلين، وابن تيمية، وابن القيم، وابن عبدالسلام، والشاطبي، وابن عاشور، وعلال الفاسي نماذج واضحة تاريخياً على ذلك، وهذا يؤسس لأهمية جديدة للمقاصد، وما لها من دور في تحرير الأرض ومقاومة العدو.
ارتبط الفكر المقاصدي أيضاً بفترات الغزو الفكري، وإثارة الشبهات، وفترات الضعف الحضاري الإسلامي حين تصبح الأمة المسلمة هي الطرف الضعيف في العالم، وهنا تتراوح ردود الفعل بين تقوقع وتخندق؛ حفاظاً على الهوية، وبين انفتاح ومبادرة عبر الاستنجاد بفلسفة التشريع الإسلامي والفكر المقاصدي لدحض الافتراءات، وإزالة الشبهات، وترسيخ الواضحات والكليات، وهذا يؤسس لدور جديد آخر للمقاصد في تحرير الأمة فكرياً وعقدياً، وأهميتها في حفظ الهوية للأمة المسلمة(3).
وإننا في عصرنا الحاضر لا حياة لنا ولا رجاء فينا ولا أمل لاستنقاذ أنفسنا وأمتنا والإنسانية كلها إلا بتحكيم مقاصد الشريعة وفكرها في حياتنا، سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع أو نظام الحكم أو الأمة أو الإنسانية كلها.
ومن أهم الدوائر التي يجب أن تُفعَّل فيها مقاصد الشريعة، وأنْ تحقِّق مقاصد الشريعة، هي دائرة السياسة الشرعية، وإنّ أي نظام سياسي يقوم ويُنصَب يجب أن يستهدف تحقيق مقاصد الشريعة ويروم حفظها ودوامها، ويعمل على استقرارها واستمرارها.
وظائف نصب الحاكم في الشريعة وعلاقته بالمقاصد:
إن أي نظام سياسي يقوم في أي مكان في الأمة واجب عليه أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهذه هي الوظيفة الأساس لأي حاكم في الإسلام، وإذا تأملنا كلام فقهاء السياسة عن واجبات الحاكم التي حصروها في عشرة:
الأول: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة؛ أي إقامة الدين على وجهه الصحيح.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بينهم؛ أي إقامة العدل بين الناس وتنفيذ الأحكام.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين؛ أي نشر الأمن في الداخل.
الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك؛ أي تنفيذ عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرماً ويسفكون فيها دماً لمسلم أو معاهد؛ أي حماية الأمن الخارجي بالعدة والاستعداد الدائمين.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف.
الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد العظماء فيما يفوضه إليهم من الأعمال.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة.
هذه هي واجبات الإمام كما حددها بعض الفقهاء، وهي تدخل جميعاً تحت واجبين اثنين، هما: إقامة الدين، وإدارة شؤون الدولة في حدوده(4).
أقول: إذا تأملنا هذه الواجبات وجدناها جميعاً لا تعدو تحقيق مقاصد الشريعة، وقد بينا من قبل أن مقاصد الشريعة ليست شيئاً خارجاً عن ماهية الشريعة أو نصوصها، بل هي مستمدة من نصوصها استقراء واستنباطاً.
وهذه المقاصد كما هو معلوم هي توفير العيش الكريم للشعوب، وحفظ حرياتها، وتحقيق الأمن الخاص والعام في المجتمعات، وحفظ دين الأمة ونفوسها وعقلها ونسلها وعرضها ومالها، وهذه هي مقاصد العيش الإنساني الكريم كما أراده الله تعالى، ونزَّله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في حياته بالمدينة المنورة.
الهوامش
(1) مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي قسم العبادات لأحمد محمد ندا وطنطاوي مصطفى: 5. وتجدر الإشارة إلى أن الأزهر تم تطويره أكثر من مرة، منها: 20 محرم 1314هـ / 1 يوليو 1896م؛ حيث صدر قانون تطوير الأزهر في عهد الخديو عباس حلمي الثاني، ثم بدأت جامعة الأزهر في ثوبها المعاصر سنة 1930م مع قانون إصلاح الأزهر، حيث أُسست كليتان هما اللغة العربية والشريعة، ثم قانون رقم (103 لعام 1961) وهو قانون تطوير الأزهر؛ حيث أصبحت جامعة الأزهر تتكون من الكليات الآتية: كلية أصول الدين، وكلية الشريعة، وكلية المعاملات والإدارة، وكلية البنات الإسلامية، وكلية الهندسة، وكلية الطب، وكلية الزراعة.
(2) راجع مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي: 4.
(3) انظر ارتباط الفكر المقاصدي بهذه المعاني كتاب: مقاصد الأحكام الفقهية للدكتور وصفي عاشور أبو زيد: 95-99. سلسلة روافد. الكويت. الطبعة الأولى. 1433هـ/ 2012م.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي: 22-23. تحقيق أحمد مبارك البغدادي. مكتبة دار ابن قتيبة. الكويت. 1409هـ، وانظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء: 27-28. دار الكتب العلمية، والإسلام وأوضاعنا السياسية لعبدالقادر عودة: 183-184. والتشريع الجنائي الإسلامي له أيضاً: 1/ 43، والإسلام والاستبداد السياسي لمحمد الغزالي: 106.
(*) دكتوراه في مقاصد الشريعة.