– المصالحة يجب أن تكون بلسماً لمعالجة الجروح وإزالة الألغام الاجتماعية التي زرعها النظام السابق
– البعدان القبلي والجهوي تستثار فيهما النعرات التي تحجب حقائق الأشياء وتشوش على صوت العقل
– لا بد من أطر قانونية تنصف المظلوم وتجبر الضرر حتى لا يتحول المجتمع إلى ثقافة الغابة
يتبادر إلى بعض الأذهان أن مشروع المصالحة الوطنية التي نريد هو معالجة لما حدث أثناء ثورة السابع عشر من فبراير في ليبيا، متناسين أن هذه الثورة وما حدث فيها نتاج منطقي للظلم والفساد والاستبداد الذي عشش طوال الأربعة عقود الماضية، ولم يكن وليد اللحظة، ولا يمكن اختزاله في حادث معين أو قضية بعينها.
لقد شوه النظام السابق جهاد الأبطال الذين صنعوا الاستقلال، وشوه نضالاً وحراكاً ثقافياً واجتماعياً كان من أسس هذا الاستقلال، وشوه النظام نخبة ثقافية، وأودعها السجون حقبة السبعينيات، واستولى على أموال الموسرين بحجة تصفية البرجوازية، وصادر الممتلكات الخاصة وحارب الناس في قوت أولادهم، وانبرى يُطلق الأوصاف المقيتة لكل معارضيه، وأدخل البلد في حروب لا طائل من ورائها، ذهب جراءها آلاف الضحايا من أبناء هذا الشعب، وجنى الوطن من ورائها فقداً لعدد كبير من أبنائه بالإضافة إلى قائمة طويلة من اليتامى والمتضررين.
كما أعدم معارضيه على رؤوس الأشهاد، وزج بالآلاف من أبناء الشعب في السجون والمعتقلات ليواجهوا أقذر أساليب الكبت والتعذيب، وشرد آلاف الأسر من ورائهم في الداخل بقانون العقوبات الجماعية الذي هدم بموجبه حتى البيوت، أما من تمكنوا من الهجرة القسرية، فقد قام بملاحقتهم قتلاً وتهديداً ورصداً وتشويهاً، وحارب الناس في قوتهم وسهل سبل الفساد حتى صار الشعار «رزق حكومة»، «واخنب واهرب» و»اللي ما تأخذه، يأخذه غيرك».
ولم تكن هذه الانتهاكات تنفذ من رأس النظام مباشرة، بل استخدم فيها أذرعاً من أبناء الشعب، معتمداً في التغرير على تجاذبات قبلية وجهوية، وأطماع شخصية استجاب لها السذج وضعاف النفوس، ومعتمداً على الضيق في فرص العمل والكسب الذي نتج عن سياساته المتقلبة ونظرياته المزعومة، حتى ألجأ قطاعاً عريضاً من الموظفين والعاطلين والشباب بل وحتى من المتقاعدين والنساء المطلقات إلى العمل ضمن جهاز الأمن الداخلي في كتابة التقارير والوشاية بالمواطنين من أجل لقمة العيش، ليحصد الوطن جراء ذلك جرحاً غائراً بأياديه! فمن وقع عليهم الانتهاك هم من أبنائه، ومن مارس هذا الانتهاك من أبنائه أيضاً، وقد يتذبذب البعض بين الصنفين حيناً من الزمن.
المصالحة الوطنية
إن الانتهاك لدى البعض لم ينته بمجرد موت رأس النظام وهروب أعوانه المقربين وكتائبه، بل كل من مارس الانتهاك بطريق مباشر أو غير مباشر، لا بد أن يقع في دائرة استرداد الحقوق، وليس المقام لمناقشة هذه الرؤية ومدى أحقية هذا الرأي، ولكن يجب التأكيد على أن مشروع المصالحة الوطنية لا بد أن يكون البلسم الذي نعالج به -بعد توفيق الله سبحانه وتعالى- هذه الجروح، ونزيل به الألغام الاجتماعية التي خلفها نظام الظلم والفساد والاستبداد بين أبناء المجتمع الواحد.
إن مشروع المصالحة الوطنية يجب أن ينحو إلى شخصنة القضايا قدر الاستطاعة والممكن، بحيث لا تكون القضية قضية قبيلة معينة ضد قبيلة أخرى، أو قضية جهة ضد جهة أخرى، أو منطقة ضد منطقة أخرى، بل قضية فرد أو أفراد ضد فرد آخر أو أفراد آخرين.
إننا يجب أن نجرد القضايا من البعد القبلي والجهوي؛ لأنهما بعدان تستثار فيهما الحميات والنعرات التي تحجب حقائق الأشياء وتشوش على صوت العقل والمنطق والإنصاف، يجب أن ينحو مشروع المصالحة إلى تحديد المسؤولية الفردية فيما وقع ويقفل الطريق على كل ما من شأنه أن يخرق النسيج الاجتماعي للمجتمع الليبي.
ما حدث خلال العقود الأربعة الماضية يفوق الوصف، وبعض الجرائم لا يتخيلها العقل السوي وتأباها النفوس المتزنة؛ فما ذنب أطفال صغار يتم حرمانهم من حقوقهم المدنية حتى من لقمة العيش لجرم اقترفه أبوهم أو أحد أفراد أسرتهم، هذا إذا سلمنا بالجرم؟! ما ذنب أسرة يهدم عليها بيتها وتشرد في الشارع بلا مأوى ولا حتى سقف يظلهم لمخالفة اقترفها أحد أبنائهم، هذا إذا سلمنا بالمخالفة؟! كيف يستسيغ المنطق أن يمثل بجثث المعارضين وتنبش قبورهم؟!
ولكن على بشاعة ما حدث وفظاعته، فإن سفينة الأمان في المجتمع يجب ألا تخرق بأيادي العابثين، والمصالحة الوطنية يجب ألا تخول أحداً -كائناً من كان- أن يسترد حقه أو مظلمته بشكل فردي، مهما كان حجم الظلم الذي وقع عليه، بل لا بد من أطر قانونية تنصف المظلوم وتجبر الضرر وترد الحقوق، حتى لا يتحول المجتمع إلى ثقافة الغابة التي يأخذ فيها كلٌ حقه بيده.
بل إن مشروع المصالحة يجب أن يذهب أبعد من ذلك، بأن يعتبر كل فعل يمارس بذريعة استرداد الحقوق خارج الأطر القانونية، جريمة يعاقب صاحبها مهما كان بشاعة الظلم والانتهاك الذي وقع عليه، وهذا ليس استخفافاً بالانتهاكات ولا تهميشاً للمظلومين، بل حتى لا يتحول المجتمع إلى مجتمع أدغال، ولأن ظاهرة استرداد الحقوق بشكل فردي ودون أطر قانونية، إذا فتح بابها، فإن المئات ستسول لهم أنفسهم الاعتداء على الأعراض والممتلكات بحجة استرداد الحقوق، وحينها يُفقد الأمن الذي هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة، ونقع في عين ما كان يعاب على النظام البائد.
(*) كاتب ومؤرخ إسلامي ليبي