إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراق إخواننا في نيوزيلندا لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا شك أنها صدمة تحمل في طياتها كثيراً من الألم، مثل صعود التيار المتشدد ضد المسلمين في الغرب، و”الإسلاموفوبيا” الذي تذكي ناره وسائل الإعلام، ويسري كالنار في الهشيم خلال منصات التواصل الاجتماعي، ويذكر المرء بحسرة رخص الدم المسلم، وتحريض البعض ممن يتحدث بلغتنا!
توقفت عند ذكر المجرم الدموي الأسترالي الذي فعل فعلته الشنيعة، بتاريخ الصراع بين الحق والباطل في الأندلس، وعلى أبواب فيينا، وعلى أسوار عكا واستخدامه للتاريخ كمقصلة انتقام.
كذلك توقفت عند اعتبار المسلمين المهاجرين إلى الغرب، من أي جيل، بمثابة الغزاة الذين يجب القضاء عليهم، ولا شك أن هذا المجرم ولد في أستراليا، فهل كان أجداده الأوائل أستراليين؟ الجواب بلا شك بالنفي، فالمتتبع لقصة أستراليا سيجد الجواب.
في بحث مستفيض في «بي بي سي» بعنوان «عندما وصل الإسلام إلى أستراليا»(1) وجدنا أن الكثير من الأستراليين يجهلون أن سكان البلاد الأصليين كانوا على اتصال مستمر بمسلمين أجانب قبل وصول المستعمرين المسيحيين إلى بلادهم، ولا يزال الإسلام إلى اليوم يجتذب بعضهم.
التأريخ باستخدام الكربون المشع لشمع النحل في رسومات الكهوف يشير إلى فترة تاريخية أسبق بكثير من وصول الأوروبيين، ويبدو أن بعض الرسومات أنجزت قبل عام 1664م، وربما تعود إلى عام 1500م.
القوارب الصغيرة البيضاء والصفراء الراسية على صخور جزيرة أرهام، شمالي أستراليا، تروي لنا قصة مغايرة لتلك التي يعرفها أغلب الأستراليين عن أمتهم، إنها قوارب إندونيسية تقليدية معروفة باسم «براوس»، كانت تحمل الصيادين المسلمين من مدينة ماكاسار المزدهرة بحثاً عن سمك خيار البحر.
ويرى عالم الأنثروبولوجيا «جون برادلي»، من جامعة ملبورن، أن التواصل مع سكان ماكاسار هي أول محاولة من الأستراليين لإقامة علاقات مع الخارج، ويضيف أن المحاولة كانت ناجحة، لأنهم عقدوا صفقات ومعاملات تجارية، على أساس المساواة دون مشكلات عرقية، ولكن بريطانيا تعاملت بشكل مناقض، فقد اعتبر البريطانيون أستراليا أرضاً بلا سكان، ولذلك استوطنوها بلا اتفاقية، أو أي اعتراف بحق السكان الأصليين في أرضهم، وقد استقر بعض الصيادين من أهل ماكاسار بأستراليا وتزوجوا من أستراليات، وتركوا إرثاً دينياً وثقافياً عمّر طويلاً في أستراليا.
وحسب إحصاء السكان في أستراليا عام 2011م، هناك 1140 شخصاً من السكان الأصليين يعرفون أنفسهم بأنهم مسلمون، ويعتنق السكان الأصليون أيضاً المسيحية، ولكن عدد المسلمين بينهم تضاعف مقارنة بما كان عليه عام 2001م، حسب الإحصاء.
ويعد «أنتوني موندين»، بطل الملاكمة العالمي، أبرز سكان أستراليا الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام، وقد تأثر بحركة قوة السود، وخاصة مناضل الحقوق المدنية «مالكوم أكس»، الذي كان زعيم منظمة «أمة الإسلام».
يقول «جاستين آغال»، وهو من السكان الأصليين واعتنق الإسلام منذ 15 عاماً: «سيرة «مالكوم إكس» رائعة، كان مهتماً بالعدالة الاجتماعية والدفاع عن قضية شعبه، ولكنه كان مهتماً أيضاً بالبحث عن الجانب الروحي في بحثه عن الحقيقة»، ويعد «آغال» واحداً من السكان الأصليين الذين يربطون بين المسيحية وعنصرية الاحتلال في أستراليا، ويقول: إنه من بين ما نجح فيه الاحتلال بأستراليا هو تلقين السكان الأصليين أن الله يكرهنا، وأننا أبناؤه المنبوذون، وأنه عاقبنا فجعلنا متوحشين، بينما يرى في الإسلام امتداداً لمعتقدات السكان الأصليين الثقافية.
وتقول «بيتا ستيفنسن»، خبيرة علم الاجتماع في جامعة فيكتوريا: إن التطابق في المعاني بين معتقدات السكان الأصليين والإسلام ليس غريباً، فهم يشتركون في ممارسات مثل ختان الذكور وتعدد الزوجات وعدد من السلوكيات الثقافية؛ مثل احترام الأرض وتوقير كبار السن، ويرى بعض السكان الأصليين في اعتناقهم الإسلام تجديداً لحياتهم، يقول أحدهم: إنه كان متشرداً، ومدمناً على الخمر، وساعدته تعاليم الإسلام والصلاة وتحريم المسكرات والمخدرات والقمار على التغلب على الإدمان الذي أقلع عنه منذ ستة أعوام، ويقول: عندما اعتنقت الإسلام شعرت لأول مرة بأنني إنسان، قبلها كنت مشتتاً بين أكثر من عقيدة وقناعة، لم أكن أبداً إنساناً مكتملاً، ويرفض الانتقاد الذي يوجه له بأنه تخلى عن طريقة حياته التقليدية، ويعتقد أن ثقافة السكان الأصليين دمرها الاحتلال.
خريطة المجازر
قام البروفيسور «لندال ريان» بمشروع طموح جداً وهو رسم خريطة لكل مواقع المجازر التي ارتكبها المستعمرون الأستراليون، وجعل هذه الخارطة متاحة على موقع تفاعلي على شبكة الإنترنت، وبعد 4 سنوات من الأبحاث المضنية في عام 2017م، فإن الخريطة التي لم تكتمل بعد، رغم أنها تتضمن أكثر من 170 مجزرة ارتكبت بحق السكان الأصليين في شرق أستراليا، إضافة إلى 6 مجازر راح ضحيتها المستوطنون، جميعها حدثت في الفترة بين عامي 1788 و1872م، وبحسب تقديرات ريان، فإن عدد المجازر الكلي بحق السكان الأصليين يتجاوز أكثر من 500 مجزرة، بينما المجازر بحق المستوطنين هي أقل من 10 مجارز، يقول «ريان»: إن القتل صمم بطريقة لا يمكن كشفه(2).
اكتشف الكابتن «كوك» جزيرة الأحلام عام 1770م، وأبحر أول أسطول بريطاني مكون من 11 سفينة بقيادة الكابتن «آرثر فيليب» تحمل 1500 بريطاني، من بينهم 800 من المسجونين في سجونها، ووصلت أول دفعة عام 1788م، وخلال الستين سنة التي تلتها وصل عدد المجرمين المرسلين للاستقرار في أستراليا إلى 162 ألفاً، ويقول تاريخ أستراليا: إن الغزاة الجدد البريطانيين حاولوا إبادة السكان الأصليين للسيطرة التامة على الأرض الجديدة، وإن عمليات الإبادة كانت تسير جنباً إلى جنب مع عمليات استقطاع المساحات الشاسعة من الأراضي المنتقاة وامتلاكها بوضع اليد.
قارن ذلك مع الاندماج السلمي للمسلمين الأوائل مع الشعب الأصلي قبل أن يبدأ الاحتلال كما ذكرنا.
إن استخدام التاريخ كمقصلة أو رشاش أوتوماتيكي مردود عليه، بمحاكم التفتيش، والحروب الصليبية، ومجازر البوسنة.
ولا يشك أحد أن الأستراليين البيض الذين لهم وقت كبير فيها إما أنهم من أحفاد المجرمين الذين نفوا إليها (ثبت أن مليوني بريطاني و4 ملايين أسترالي هم من أقارب هؤلاء(3))، وإما من أبناء الغزاة الذين استأصلوا معظم السكان الأصليين! فمن منا الغازي والإرهابي؟!
يقال: إن رجلاً من العرب اسمه سعد بن زيد، تزوج امرأة شديدة الجمال تُدعى رهم بنت الخزرج، على ضرائر لها، وولدت له ذكراً أسماه مالكاً، وكانت ضرائرها في غيرة شديدة منها، فيساببنها «يا عفلاء»، والعفل هو شيء بجسد المرأة التي حملت ووضعت؛ فكانت رهم تبكي وتشكو إلى أمها أمر مسبتها، فنصحتها أمها أن تبادرهم بنفس القول إذا ساببنها، فترقبت رهم حتى اشتبكت معها إحداهن فقالت لها: يا عفلاء، فضحكت ضرتها وقالت: رمتني بدائها وانسلت؛ أي عيرتني بما فيها وألقته بي.
______________
الهوامش
(1) عندما وصل الإسلام إلى أستراليا، جاناك روجرز، بي بي سي، 26 يونيو 2014، http://www.bbc.com/arabic/artandculture/2014/06/140625_australia_islam_influence
(2) New map records massacres of Aboriginal people in Frontier Wars
4 July 2017
https://www.abc.net.au/news/2017-07-05/new-map-plots-massacres-of-aboriginal-people-in-frontier-wars/8678466
(3) Online records highlight Australia›s convict past
25 July 2017
https://www.abc.net.au/news/2007-07-25/online-records-highlight-australias-convict-past/2512534
(*) دكتوراه جامعة برمنجهام, كاتب وأديب.