يرى أن التمزق الهائل بين الإسلاميين والعلمانيين بالخمسينيات أصبح أكثر وحشية من عقود الاحتلال البريطاني لمصر
حاول فك العلاقة المعقدة بين سيد قطب وجماعة الإخوان مع انحياز طائفة من الشباب الثوري للفكر القطبي
جنح المؤلف إلى الأسلوب الدرامي القصصي ما قد يؤثر على ملابسات الأحداث والدقة في إيرادها
لا بد من إجراء مراجعات في ضوء الأحداث التي أوردها الكتاب والإفادة منها في واقعنا ومستقبلنا
صدر مؤخراً كتاب مهم لفواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية، ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، بعنوان «صناعة العالم العربي.. عبدالناصر وسيد قطب.. الصدام الذي شكل الشرق الأوسط».
وقد أقام مركز «رؤيا للدراسات والبحوث» بإسطنبول ندوة مصغرة لقراءة هذا الكتاب، قدم خلالها د. محمد هشام راغب عرضاً له، ودار النقاش حوله من مجموع الحضور، ومن الفائدة للقراء العرب تقديم قراءة لهذا الكتاب من خلال الندوة التي عقدت مع إضافة ما أراه مناسباً من ملاحظات نقدية؛ حيث إنه صدر باللغة الإنجليزية ولم يترجم للعربية حتى الآن.
الفكرة الرئيسة:
تتمركز الفكرة الرئيسة للكتاب في وجود أو قيام «حرب إسلامية داخلية» بين الإسلاميين والقوميين العلمانيين، وقعت في مصر قبيل وبعد عام 1954م، عندما حدثت قطيعة مريرة بين النظام العسكري الحاكم وحركة الإخوان المسلمين؛ حيث يقدم د. فواز جرجس رؤيته ممثلة في شخصيتين (سيد قطب، وجمال عبدالناصر) باعتبارهما ممثلين لوجهي الصراع الذي اشتعل في مصر، ثم امتد لمنطقة الشرق الأوسط برمتها، منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا؛ واصفاً هذه الحرب في موضع آخر بأنها كانت «حرباً بين الإسلام والردة»، أو بين «الأصالة والحداثة».
ويرى الكتاب أن التمزق الهائل الذي وقع انتهت به الحال في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي ليصبح أكثر وحشية ودموية من كل عقود الاحتلال البريطاني لمصر، وأصبح كل جانب ينفي إنسانية الآخر ويصوّر منافسه «كخائن» أو حتى «كافر».
محتويات الكتاب:
يقع الكتاب في 12 فصلاً وخاتمة، يقدم الفصلان الأول والثاني خلفية تاريخية لبروز التيارين القومي والإسلامي في مصر خلال أربعينيات القرن الماضي، وذلك على أنقاض السياسة شبه الليبرالية التي كانت مهيمنة على مصر آنذاك، التي لم يستطع سياسيوها أن يلبوا المطالب الوطنية للشعب المصري، وعلى رأسها مواجهة الاحتلال البريطاني.
ويركز الفصل الثالث على الفترة التي أعقبت انقلاب عام 1952م، ويفحص العلاقة بين تنظيم الضباط الأحرار وحركة الإخوان، ويستعرض الآليات الدينامية داخل الحركتين، ويتناول الفصل الصراع بين محمد نجيب، وجمال عبدالناصر، وكذلك الصراع الذي خاضه حسن الهضيبي لإثبات شرعيته وسيطرته على جماعة الإخوان.
أما الفصل الرابع فيصف سيطرة القادة العسكريين الجدد على مقاليد السلطة بعد إزاحة الملك فاروق ونظامه، ثم جهود العسكر للسيطرة الفكرية على البلاد، من خلال إلغاء الأحزاب وتكوين أدوات أمنية أحكمت قبضتها على البلاد، ويشير إلى أن عبدالناصر قضى سريعاً على الأحزاب السياسية والحركة الشيوعية، ومن ثم تفرغ للإخوان الذين كانوا يملكون قاعدة اجتماعية كبيرة، فواجههم بوحشية وقمع شديد أورث عقوداً من المرارة والكراهية، وهيّأ التربة لظهور حراك إسلامي أكثر ثورية وعنفاً.
أما الفصول من الخامس إلى الثامن فخصصها المؤلف لبطلي كتابه (جمال عبدالناصر، وسيد قطب) كرأسين للحركتين القومية والإسلامية، لتتخطى حلبة صراعهما مصر إلى باقي العالم العربي بلا استثناء؛ حيث تؤكد هذه الفصول أن كلاً منهما قد انتقل –في بعض مراحل حياته– إلى التعاطف بدرجة ما مع الحركة الإسلامية أو العلمانية القومية، وأن كلاً منهما قد وصل إلى وجهته النهائية من خلال مسار متقلب تشكل في جزء كبير منه بالطموح الشخصي والنضال من أجل السلطة وسط التأثيرات المتنوعة والظروف التاريخية المتغيرة، ولا يرى المؤلف صعوبة في تخيل كل من الرجلين على أنه كان من الممكن أن ينتهي به المطاف في مكان الآخر!
وفي الفصل التاسع، يحاول فك العلاقة المعقدة بين سيد قطب وجماعة الإخوان، مع انحياز طائفة من الشباب الثوري للفكر القطبي وربما بعيداً عن التيار العام للإخوان.
أما الفصلان العاشر والحادي عشر فيستعرضان المشهد المصري بعد إعدام سيد قطب عام 1966م، ثم الهزيمة المنكرة لعبدالناصر والقومية العربية في حرب عام 1967م، ثم المساحة التي أعطاها السادات للتيار الإسلامي، وما تلاها من حرب عام 1973م وصعود النفوذ الإسلامي الخليجي في الشرق الأوسط.
ويشرح الفصل الثاني عشر العلاقة بين صِدام عبدالناصر، وقطب وتأثيره للعقود التالية على عموم الحركة الإسلامية، وبروز مدرستين واضحتين للتغيير الإصلاحي البطيء والتغيير الثوري العنيف.
الفصل الختامي يتناول الأحداث التي أعقبت ثورة 25 يناير والانقلاب على الرئيس محمد مرسي، يرحمه الله.
النتائج العشر المستخلصة:
في قراءته للكتاب، رأى د. محمد هشام راغب أن هناك عشر نتائج يريد الكتاب أن يقررها وينتهي إلهيا، وهي على النحو الآتي:
1- السبب الرئيس في الصدام المروع بين الإخوان وعبدالناصر يرجع إلى نهم الطرفين للاستحواذ على السلطة.
2- محاولة اغتيال عبدالناصر في المنشية عام 1954م أعطته الفرصة التي كان ينتظرها للقضاء على حركة الإخوان.
3- بنى عبدالناصر جهاز أمنه العتيد ليتمكن من تنفيذ برنامجه الاجتماعي الطموح ويحمي «ثورته»، أخذت هذه الأجهزة الأمنية حياة خاصة بها في تنافسها على الموارد والتأثير، التي تحولت في نهاية المطاف كمراكز قوة متنافسة.
4- التمزق بين العسكر والإخوان (أو بين القوميين والإسلاميين)، كان في جزء كبير منه صراعاً حول «الهوية الوطنية».
5- عبّر عبدالناصر عن أيديولوجية قومية عربية وبرنامج سياسي اشتراكي؛ بهدف تعزيز هيمنته داخل مصر وفي الجوار العربي.
6- لا القومية ولا الإسلامية كانت حركة موحّدة أو أيديولوجية موحّدة، بل إنها تنطوي على وجهات نظر متنوعة وأفراداً وفصائل مميزة.
7- الحرب الطويلة التي اندلعت بين القوميين العرب وعلماء الإسلاميين مباشرة بعد نهاية الحقبة الاستعمارية قد فوتت على مصر –والعرب- تطبيع العلاقات بين الدولة والمجتمع وصياغة الهوية الوطنية المتماسكة.
8- بعد إعدام سيد قطب، تم تزويد وتغذية ذاكرة وبيانات قطب وألهمت معظم الموجات اللاحقة من الإسلاميين.
9- التمكين اللاحق للحركة الإسلامية كان سببه الرئيس قدوم السادات إلى السلطة والسيطرة على الدولة المصرية.
10- صعود الإسلاميين في الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين لم يؤذن بتحويل الحركة أو إصلاحها، وبدلاً من ذلك، استمرت في تغذية الحرب الأهلية بين الإسلاميين والقوميين العرب.
ملاحظات على الكتاب:
من خلال ما دار من نقاش حول هذا الكتاب في الندوة المشار إليها، كانت ملاحظاتي النقدية عليه تتلخص فيما يلي:
الأولى: لا يمكن حصر الأحداث منذ ما قبل الخمسينيات من القرن العشرين حتى ما بعد ثورة يناير 2011م في شخصيتين، وإن كانا الأبرزين: عبدالناصر لما كان يمثله من رمزية للتيار القومي الشيوعي، ومعبراً عما أسماه الشيخ محمد الغزالي بـ»الزحف الأحمر»، وسيد قطب بما يمثله من مركزية فكرية ورمزية إسلامية و»كاريزما» لم تتوافر لغيره في القرن العشرين حتى الآن؛ حيث غدا قطب ملهماً لفروع كثيرة من تيارات الإسلام السياسي.
الثانية: كذلك لا يمكن فهم الأحداث من خلال عبدالناصر، وقطب، أو حتى من خلال تيارين داخل مصر وحولها متمثلين في التيار القومي الشيوعي، والتيار الإسلامي، ولكن ربما كان من المفيد للرؤية الشاملة استحضار السياق العالمي منذ ما قبل الخمسينيات من القرن العشرين، والوعي بميزان القوى ونِسَبِها في ذلك الوقت وأثر ذلك وانعكاساته على تشكيل هذا الصراع، لتوضع الأفكار والأحداث في سياقها الصحيح، وتفهم فهماً صحيحاً، فالسياق –كما قال علماؤنا- مرشد للمقصود، وحارس من الفهم الخاطئ.
الثالثة: جنح المؤلف في كتابه إلى الأسلوب الدرامي القصصي الترويجي، وهو ما قد يؤثر على ملابسات الأحداث والدقة في إيرادها والحقائق التاريخية في بعض الأحيان، وقد بدا ذلك جلياً منذ اللحظة الأولى في عنوان الكتاب الذي اختصر الصراع القائم في شخصيتين اثنتين!
الرابعة: من العيوب الماثلة في الكتاب أنه في حدث ضخم وكبير كان هو محور تحول الأحداث، وهو حادث المنشية؛ حيث اعتمد الكاتب فيها رواية عبدالناصر فقط، ولم يورد رواية للإسلاميين، غير نفي الإخوان المسلمين واستنكارهم للحادث، ربما لأن الإخوان في ذلك الوقت أو بعده لم يوثّقوا الحادث تاريخياً، لكن الكاتب أهمل كلاماً مهماً -بل هو الأهم عن الحادثة- للمؤرخ د. أحمد شلبي، وهو مؤرخ مستقل لا انتماءات قومية ولا إسلامية له، وكلامه فيها لا ينبغي تفويته.
الخامسة: قيمة هذا الكتاب –في تقديري– تتمثل في أنه درس مهم للواقع المعاصر؛ حيث لا بد من إجراء مراجعات في ضوء الأحداث التي أوردها الكتاب والإفادة منها بواقعنا ومستقبلنا في التعامل مع العسكر وغير العسكر؛ حيث تكاد الأحداث التي نمر بها بعد ثورة يناير 2011م تكرار لما جرى في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
ومن ناحية أخيرة، فإن هذا الكتاب ومن خلال الأفكار والأحداث والتحليلات التي قدمها يوجب على الحركة الإسلامية وكل فصيل على وجه عام أن يدون الأحداث ويوثق التاريخ، ويقوم بكتابته بشكل موضوعي موثق.