رحم الله كل من أرشد هذه الأمة إلى طاعتها لربها، والدفاع عن شريعتها، والحفاظ على ثوابتها، ورحم الله من رحلوا بعدما تركوا آثاراً وبصمات في نفوس أبناء هذه الأمة، وتركوا مواقف تضيء ظلمات الدجى أمام الحيارى من شباب هذه الأوطان المكلومة، ومن هؤلاء الأعلام الذين رحلوا في سبتمبر:
أحمد بزيع الياسين.. والفهم الإسلامي للاقتصاد
اسم لمع في سماء الفكر الاقتصادي الإسلامي والعمل الخيري في الكويت؛ حيث نجح في أن يكون نموذجاً للمسلم المطبق لمعاني الإسلام بشموله، إنه العم أحمد بزيغ الياسين، الذي أسس «بيت التمويل الكويتي»، وأصبح واقعاً ملموساً وحقيقة راسخة؛ وقد تحول من مصرف بفرع واحد عند تأسيسه في رمضان 1398هـ الموافق 31/8/1978م، إلى بنك عالمي بأكثر من 250 فرعاً في عدد من دول العالم.
ولد أحمد بزيع الياسين في 6 شوال 1346هـ، الموافق 28 مارس 1928م، في حي القناعات وسط الكويت، ونشأ في أسرة محافظة متدينة.
التحق بالمدرسة المباركية عام 1937م، وحين دخل الابتدائية واختبره ناظر المدرسة الأستاذ أحمد أفندي نقله إلى الصف الرابع متوسط مباشرة؛ لما وجد فيه من نبوغ وتفوق عن أقرانه، وبقي فيها إلى عام 1942م، حتى حصل على شهادة الصف الثاني الثانوي، ونبغ في علم الرياضيات منذ الصغر، وهو ما ساعده على فهم الاقتصاد جيداً فيما بعد، والتعامل مع لغة الأرقام وصبغها بالمنهج الإسلامي.
عمل الياسين في أكثر من مكان، وفي العديد من الدول؛ مما أكسبه خبرات قوية في مجالات عدة، على رأسها المجال الاقتصادي، وذلك قبل أن يستقر لخدمة وطنه في غرفة تجارة وصناعة الكويت عام 1970م، إلى جانب العضوية في مجلس إدارة بنك الكويت المركزي.
بدأت قصته مع تأسيس البنوك الإسلامية، عندما بدأ العمل في التجارة ورغب في الحصول على تمويل، ولم يكن في الكويت سوى فرع لبنك أجنبي في منتصف الخمسينيات، فعمل على إيجاد بديل شرعي للمعاملات المالية التقليدية، فذهب إلى مدير أحد فروع البنوك الأجنبية شارحاً له أن هناك أدوات شرعية لها أسسها وفلسفتها في بطون الكتب الفقهية مستفادة من القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، وتعتمد على المتاجرة والمشاركة والمضاربة والإجارة والمرابحة وغيرها من الأدوات الإيجابية التي تحل الربح مكان الفائدة، وتجعل عناصر الإنتاج الحقيقي تتضافر مع النقود بحيث لا تعمل النقود بمفرها، إلا أن مدير البنك تهكم عليه ورفض فكرته! فكان ذلك دافعاً وحافزاً له لتأسيس بيت التمويل الكويتي عام 1977م، وبدأ العمل يوم 28 أغسطس 1978م، كما ساهم في إدارة بيت التمويل التركي، وإدارة الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وله أبحاث ومحاضرات في مجال الاقتصاد بما فيه الاقتصاد الإسلامي.
ظل يناهز ويدافع عن الفكر الإسلامي في الاقتصاد، حتى توفاه الله عن عُمْر 83 عاماً يوم 10 شوال 1432هـ، الموافق 8 سبتمبر 2011م.
أبو الأعلى المودودي.. المجدد الهندي
في بلد يعتبر قارة قائمة بذاتها، حيث تجاوز سكانه المليار، ولد الشيخ أبو الأعلى المودودي في 12 رجب 1321هـ، الموافق 25 سبتمبر 1903م، بمدينة أورنك آباد التابعة لولاية حيدر آباد جنوبي الهند، لأب مثقف ومتصوف؛ الذي شجع ابنه على طلب العلم منذ الصغر؛ فدرس القرآن الكريم والحديث والأدب العربي والفلسفة، وتعلم اللغة الأردية والعربية والفارسية والإنجليزية.
وفي عام 1920م، اشتغل المودودي بالصحافة حتى أصبح رئيس تحرير الجريدة اليومية «تاج مسلم» التي تصدر في دلهي، وبعد ثلاث سنوات التحق بجريدة «جمعية علماء المسلمين» في الهند التي تصدر أيضاً في العاصمة الهندية وعمل رئيساً لتحريرها.
انتقل المودودي إلى البنجاب عام 1938م، استجابة لدعوة المفكر محمد إقبال لمساعدته في نشاطه السياسي والفكري، خاصة في ظل تجاهل زعامات الهند لحقوق المسلمين وقت الاستقلال.
وفي عام 1940م، قرر حزب الرابطة الإسلامية إقامة دولة باكستان، وشكل مجلساً من العلماء لوضع برنامج الدولة الجديدة، وكان أبو الأعلى المودودي أحد أعضائه.
دعا المودودي إلى إنشاء حركة إسلامية تؤمن بالإسلام منهاجاً للحياة، وهكذا تأسست «الجماعة الإسلامية» عام 1941م وانتُخب المودودي أميراً لها.
تزايدت شعبية المودودي وأقبل الشعب على أفكاره وتحمس لها، مما دفع بالحكومة لتشويه صورته، وقُبض عليه عام 1953م، وحُكم عليه بالإعدام؛ فاشتعلت المظاهرات داخل باكستان وخارجها، فتراجعت الحكومة، إلا أنها أصدرت قراراً بحظر الجماعة الإسلامية في 6 يناير 1964م واعتقال المودودي؛ ما أثارت موجة من الغضب الداخلي والخارجي حتى ألغت المحكمة العليا قرار الحظر في أكتوبر.
اهتم المودودي بالجالية الإسلامية المغتربة في أوروبا وأمريكا خلافاً لما يعتقد الكثيرون، ولم تنحصر اهتماماته في حدود باكستان والعالم العربي.
ترك إمارة الجماعة عام 1972م، وتفرغ للعمل الدعوي والدفاع عن الإسلام بالتأليف والوعظ والإرشاد، وظل كذلك حتى توفاه الله في 31 ذي القعدة 1399هـ، الموافق 22 سبتمبر 1979م، بمدينة نيويورك خلال زيارته لولده أحمد الفاروقي.
حسنة سليمان.. زوجة يوسف طلعت أسد القنال
ولو كُنَّ النّساءُ كمَنْ فقدْنا لفضّلتُ النّساءَ على الرِّجَال
بهذه المعاني، عاشت زوجة الشهيد يوسف طلعت الذي سطر بدمائه مداداً من نور في طريق التضحية من أجل رفعة الدين، وعاشت عليها زوجته من بعده وربَّت عليها أولادها حتى لقيت ربها وهي على ذلك.
ففي محافظة الإسماعيلية الواقعة على المجرى المائي لقناة السويس بمصر، التي أصبحت قاعدة لجنود المحتل البريطاني، ولدت حسنة أحمد سليمان عام 1923م، فكان للبيئة التي نشأت فيها أثر في تربيتها، حيث أهّلتها لتكون زوجة لشهيد حي يمشي على الأرض، ولتكون خير من يحمل رسالته بعد أن تدلى جسده تحت حبل المشنقة.
نشأت هذه الزهرة في بيت يحب دينه ويعظّم شعائره، حتى شبت وكبرت وطرق بابها الخُطّاب، غير أن والدها كان صاحب نظرة ثاقبة، فرأى في الشاب يوسف طلعت أنه الزوج المناسب لابنته، فتحدث مع زوجته عن رغبته في ذلك فوافقته الرأي، غير أن المنية عاجلته، إلا أن الأقدار دفعت بيوسف ليتزوجها بعد أن وجدها من بيت صالح.
وبعد أن انتقلت لبيته عاشت معه على شظف العيش فلم تقنط مما هي فيه، بل كانت صابرة راضية، حتى رزقهما الله بالبنين والبنات الذين اعتنت بهم، خاصةً أن أكثر أوقات زوجها كانت خارج المنزل؛ إما في أعماله الدعوية أو أسفاره التجارية أو جهاده في فلسطين والقنال أو خلف جدران السجون، فكانت نعم المعين له، وتصبر على طول غيابه، وتستقبله وهي سعيدة دون ضجر أو غضب، كما لم تنسَ يوماً دعوتها؛ فكانت تحاضر النساء وتخطب فيهن وتعلمهن أركان الدين.
عانت الزوجة كثرة التفتيش والمضايقة من البوليس السياسي؛ بسبب ما يقوم به زوجها من أعمال ضد المحتل البريطاني، وطالت غيبته داخل السجون، حتى قامت الثورة وشاركوا فيها غير أنها كانت بداية النهاية لاجتماعهما سوياً، حيث وقعت حادثة المنشية في أكتوبر عام 1954م، وبحث البوليس عنه فلم يجده فاعتقلوا زوجته حتى قبض عليه.
رأت الزوجة في منامها أن اثنين يطعنان زوجها من الخلف، فأدركت أن حياة زوجها قصيرة، وبالفعل استيقظت على من يخبرها بأن المحكمة حكمت على زوجها بالإعدام، ونُفذ الحكم فيه، ودُفن تحت حراسة مشددة، فلم تحضر الزوجة جنازته.
عاشت الأسرة والزوجة بعد دفن الزوج فترة تهديد ورعب وتفتيش من قبل المباحث، فكان لا يمر يوم حتى يتم تفتيش منزلها، فاحتضنت الزوجة أطفالها الصغار، كما احتضنت والدي الشهيد يوسف طلعت، حتى رحلت عن عُمْر تجاوز الثمانين عاماً، فجر الأحد 10 شوال 1431هـ، الموافق 19 سبتمبر 2010م، ودفنت بجوار زوجها.
_______________________________
المراجع
1- أحمد بزيع.. ومنهجية الفكر الاقتصادي الإسلامي: موقع إخوان ويكي،
2- عبدالمنعم الهاشمي: أبو الأعلى المودودي، دار ابن كثير، بيروت، لبنان، 1996م.
3- حسنة أحمد سليمان: موقع إخوان ويكي،