تتعدد وسائل السيطرة وتتداخل ويأتي على رأسها القوة الصلبة، التي يراها الكثير سطوة وتسليحا وهيمنة اقتصادية؛ تعطى سيطرة على مساحة من نفوذ مرتهن بفترة زمانية ومساحة مكانية محددتين، لكنهم يغفلون عن تأثير اللغة ومدى مقدرتها على الدخول إلى عقول ووعي الناشئة تمتد عبر فترات أطول ومساحة نفوذ أرحب.
فهذه اللغة الإنجليزية اكتسحت الكرة الأرضية تتماهى مع اللغات الأخرى بل وتسحب البساط من تحتها مصيبة أكثر من هدف في آن واحد.
وتدهش حين يطوف بصرك بواجهات المحال والمصانع والمنتديات بل دور العبادة ومراكز البحث العلمي.
من ينظر إلى طرق بسط سياسة الأمركة راعية اللغة الإنجليزية يدهش من تقنيات العرض، تحوط بك اللافتات بتلك اللغة فتظن أنك في واشنطن أو نيويورك!
تقدم المادة اللغوية مقروءة أو مسموعة بحرفية قل نظيرها؛ لغة الألوان ولغة الجسد، تحاصرك أنى تحركت.
لا ترتكز على إرث حضاري فهي لغات متعددة ولكنات متباينة.
ولو نظرنا إلى واقع اللغة العربية نصاب بالدهشة والحيرة؛ دعك من حديث المؤامرة والجناية عليها؛ فالعرب هم من أساؤوا إلى لغتهم وحضارتهم.
ما بين إبداع وتعريب وترجمة مضى نهر اللغة العربية يشق طريقه وسط كتل بشرية لها ألسن تنطق وتبين.
كان القرآن العامل الأكثر تأثيراً ببيانه وإعجازه، حتى إذا ما توسع العرب في بقاع الأرض حملوا معهم لغتهم ومفاهيم حضارية قل نظيرها.
ثمة تأثير أيديولوجي للغة، إنه القابلية للسيطرة: نمطية الخط ومقدرته الحديث مع العقل والعاطفة، جماليات الخط وأنواعه ومظاهر تمثله في اللوحات الفنية في المساجد بمساحات من إبداع فارق الجسد وتشخيصه ومال إلى الرسوم النباتية والتعالق الروحي.
أشاعت اللغة العربية ثقافة الانتماء عند الشعوب التي انضمت تحت لواء الحضارة الإسلامية.
الأبجدية العربية والإسلام!
لا غرو أن كان الفتح الإسلامي لقارات العالم المعروفة متماشياً مع الخط العربي؛ فكلاهما بسط نفوذه على الإنسان حضارياً، تعربت بلدان بأكملها، وما بقي منها خارج مركز الدائرة تأثر تفكيراً وتصوراً؛ ما أهدف إليه أن حركة التعريب لها عدة مستويات أحال اللسان العربي غيره إلى التعبير والتفكير به في صورة يصعب على أهل التاريخ حصرها في نطاق واحد، أي قوة تلك التي قهرت القبطية أو السريانية أو الفهلوية فأحالت كل هذه إلى جذاذات لا تقف لعارض ريح؟
إنها لغة الوحي الذي يبهر بإعجاز قرآنه ومنطق بيانه أن يقف أمامه تصور أو لسان.
استطاعت العربية أن تكون لغة الحضارة والمدنية في مدة لا تزيد على مائة عام من نزول الوحي الإلهي، تعربت الأناجيل فغدت الكنائس تلهج بلسان عربي وإن خالطته لكنة الأعاجم؛ بل صار النحو العبري متماهياً مع النحو العربي مصطلحاً ومنهجاً.
ثمة تعريب على مستوى آخر احتفظ به أهل بلاد بعينها بلسانهم لكنهم تعربوا خطاً وكتابة، فهذه بلاد الفرس والترك والهنود والتتار والبوشناق والملايو كتبوا بالحرف العربي ما عجزوا به عن النطق بلسان الوحى الإلهي؛ حباً وانتماء لهذه الحضارة المبدعة.
وأما المستوى الثالث فهو حركة مد وجزر من تشبع بالمفردة العربية سداً لفجوات معجمية في لغات مثل اللاتينية والأنجلو ساكسونية؛ آلاف منها ضمنت تلك اللغات حتى صارت من قوام تصاريفها وأدوات بنيتها العميقة والظاهرة، حتى يحار المرء كيف لهذه اللغة أن تمتد بقوة الدفع الذاتي إلى تلك المساحات وأنت تتبوأ تلك المكانة؛ دونما ترهيب أو إعنات؟
لقد غدت الحاجة ماسة إلى مجمع لغوي يضم الناطقين بالعربية أو الكاتبين بها غير منحصر في مجامع عد أصابع اليد؛ لكنها ذر الرماد في العيون ثم هي لا تغني من عوز ولا تسد من خلل.
حتى إن أقسام اللغات الشرقية في دار العلوم أو كلية الآداب أو جامعات الأزهر لا تني تقصر فيما وضعت له؛ ولو شئنا التدليل على مقصد مقالتنا لتمثلنا بصنيع رجل واحد لكنه كان أمة في العلم والبيان؛ شيخ العربية والآداب الإسلامية حسين مجيب المصري؛ هل استطاعت جامعاتنا أن تأتي بمثله؟
ناهيك عن عجزها أن تتواصل مع آلاف المخطوطات والأضابير المنهوبة في كل مكتبة أو خزانة؟
إنه ميدان تواصل وأداة حضارة لو نعي أثرهما في عالم يشهد صراع اللغات ومن ثم تصدق مقولة من هرف بصراع الحضارات بدل تواصلها وتراحمها من أجل خير الإنسانية!
لقد توارت لغات وذابت وبقيت اللغة العربية حية وإن تعاورتها الأيام بما كسبت أيدي أبنائها.
ولا غرو أن ثراء اللغة من إبداع ونهضة مبدعيها، في ميادين الصناعة والثقافة يرفدونها بالجديد فما تبخل عليهم باشتقاق أو تعريب.