قد يكون السبب في ذلك انشغال المرأة بأسرتها بحيث لا يتبقى لها الوقت والجهد الكافيان لمزاولة نشاط اقتصادي، وربما يكون السبب ظروفاً موضوعية؛ كاحتياج المرأة لكثرة الخروج وربما السفر لمزاولة النشاط التجاري، وقد تكون نظرة المجتمع العربي في بعض البلدان للمرأة التي تشتغل بالتجارة -خاصة تلك التجارة الصغيرة والمتناهية الصغر- بشيء من التحقير وراء إحجام النساء العربيات عن المشاركة الفعالة في التجارة.
لكن ومع التغيرات المتلاحقة التي شهدها العالم ودخول الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية ساحة الحياة العصرية، تم فتح آفاق جديدة وواسعة للنساء للمشاركة في التجارة عبر الإنترنت، وشهدت الساحة الاقتصادية ما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة التاجرات عبر الإنترنت، خاصة في مجال تجارة التجزئة الصغيرة اللاتي اقتحمنها بقوة، وشهدت السنوات القليلة الماضية كثافة في تواجد المرأة عبر الفضاء الاقتصادي الإلكتروني كتاجرة وكمستهلكة أيضاً.
مزايا التجارة الإلكترونية للنساء:
1- رأسمال متناهي الصغر:
تستطيع المرأة العمل في مجال التجارة الإلكترونية ببداية بسيطة جداً؛ فيكفيها أن تمتلك أحد الهواتف الذكية من الفئة المتوسطة، مع استثمار ذكائها في معرفة السلع الجديدة التي تحتاجها النساء والفئات العمرية الاجتماعية والسِّنية التي تحتاج هذه المنتجات، وأن تمتلك ذوقاً جميلاً في الانتقاء، خاصة فيما يتعلق بالملابس وملحقاتها، وبعض المهارات في التسويق للمنتج، ومقداراً من الذكاء الاجتماعي للتواصل مع العميلات، وعمل صفحات على «السوشيال ميديا»، ودون رأسمال تقريباً؛ لتبدأ بإنشاء متجر إلكتروني خاص بها يعمل وسيطاً بين المتاجر الإلكترونية العالمية الكبرى، والعميلات أو صفحة تواصل اجتماعي تبيع من خلالها، أو برأسمال صغير جداً لتشتري هي بالفعل ما تقوم العميلة باختياره من تجار الجملة، ثم تقوم بشحنه أو بتوصيله حسب الاتفاق.
إذن، نستطيع القول: إن الميزة الأولى للتجارة الإلكترونية للنساء أنها لا تحتاج إلى رأسمال كبير، أو استئجار مكان باهظ التكاليف ونحو ذلك، ومن المعروف أن النساء هن الفئة الاجتماعية الأشد فقراً، حتى راج مصطلح «تأنيث الفقر»، وبالتالي فإن التجارة الإلكترونية تحل إشكالية رأس المال بالنسبة لهن.
2- وقت عمل مرن:
أحد التحديات التي تواجه عمل المرأة العربية بوجه عام هو التوفيق بين المهام الأسرية خاصة لمن لديها أطفال صغار، وأوقات العمل؛ حيث تعاني الكثيرات المزيد من الصراع بين حاجتها للعمل وقلقها على أطفالها، والضغوط النفسية المترتبة على هذا الصراع، لكن مجال التجارة عبر الإنترنت يتيح وقت عمل مرناً جداً؛ فمن ناحية لا يوجد خروج ومواصلات، إلا بطريقة محدودة، ومن ناحية لا يوجد وقت ثابت ومحدد؛ فتستطيع المرأة العمل وفق ظروفها المتغيرة وفي أوقات فراغها، وقد تبدأ ببداية بسيطة ومع تحسن ظروفها الأسرية تتوسع في نشاطها.
وفي هذا السياق، لا يمكن أن نغفل أن النشاط التجاري عبر الإنترنت أصبح يلاقي قبولاً مجتمعياً متزايداً، ولا يواجه بمساحة الرفض الذي كانت تلاقيه النساء اللاتي يعملن في تجارة التجزئة الصغيرة التقليدية.
عيوب محتملة
على أن التجارة عبر الإنترنت لها عيوب يمكن السيطرة عليها، وهي عيوب لا علاقة لها بجنس البائع؛ كاحتمالية سرقة الحساب مثلاً، ومن ثم تكون الحاجة ماسة للتعامل مع مواقع ذات ثقة ومصداقية، وكتأخر وقت الشحن أحياناً، وكتواجد المرأة في مجتمع لم يتعرف بعد وبشكل كاف على ماهية التجارة الإلكترونية، إلا أن أبرز العيوب التي قد تعاني منها المرأة هي تلك المنافسة الشرسة التي تجتاح العالم الرقمي؛ فالمستهلك يقارن بين الأسعار ومميزات وعيوب المنتج، وعليها كي تجد لها موضع قدم أن تنتقي أكثر المنتجات تميزاً بأقل الأسعار؛ حتى لا تضطر العميلات للبحث عن تاجرة أخرى ومتجر إلكتروني آخر.
كما أن هذه المنافسة الشرسة والانفتاح الواسع المتزايد على مجال التجارة عبر الإنترنت لا يتناسب مع امرأة لا تكرس عدداً من الساعات المنتظمة للعمل بجدية واجتهاد في تطوير متجرها أو صفحتها الإلكترونية؛ وهو ما قد يمثل عبئاً على النساء ذات المسؤولية الأسرية الكثيفة، ومن ثم لا تستطيع بعض النساء تحقيق العائد الاقتصادي المناسب والكافي من التجارة عبر الإنترنت.
النساء والخدمات الإلكترونية
لا يمكن اختزال التجارة الإلكترونية في بيع السلع المادية فحسب؛ حيث إن أي نشاط اقتصادي يدر دخلاً عبر الفضاء الإلكتروني يدخل في مجال التجارة الإلكترونية، وإن كان خدمة أو فكرة أو استشارة، وهو المجال الذي فتح آفاق أمل واسعة لأعداد متزايدة من النساء أتاحت لهن هذه الخدمات الإلكترونية، وأمنت لهن فرصة عمل بدخل مادي عادل نافست أعدادهن العاملات في مجال السلع المادية، فكثير من المعلمات يعملن ويعطين دروساً ودورات متنوعة عبر الفضاء الإلكتروني دون أن يغادرن منازلهن، ومع مساحة واسعة من الطلاب تتجاوز المنطقة السكنية التي تعيش فيها المعلمة، حتى إن بعضهن يعلمن اللغة العربية لغير الناطقات بها في بلدان أخرى، خاصة لبلدان العالم الإسلامي غير الناطق بالعربية.
مجال الاستشارات التربوية والأسرية والزوجية مجال واعد أيضاً؛ حيث يتاح للعميلة فرصة الحكي والبوح بكل ما يعتمل في نفسها من مشكلات وضغوط والحصول على استشارة متخصصة ونافعة دون الحاجة لزيارة معالج نفسي تمثل زيارته عدداً من المشكلات الشائكة في بلادنا، ومن ثم راج جداً مجال الاستشارات عبر الإنترنت، واستطاعت النساء المتخصصات في هذا المجال الحصول على فرص عمل مربحة عبر مجال الخدمات الإلكترونية دون الحاجة لإنفاق وقت في المواصلات، أو إنفاق المال في تأسيس مراكز استشارية؛ حتى إن كثيراً من النساء ممن يمتلكن هذه المراكز بالفعل أدخلن خدمة الاستشارات «أون لاين»؛ لما لمسنه من تجاوب النساء مع الخدمة الاستشارية الإلكترونية.
وهذا الأمر نفسه الذي يتم عبر الدورات أو «الكورسات» المتخصصة في قضايا الأسرة؛ كقضايا الزواج وتربية الأطفال، بالإضافة طبعاً لمجال التنمية البشرية حيث تستقطب الدورات الإلكترونية مزيداً من الأعداد خاصة قاطني الأقاليم البعيدة عن العاصمة.
تجارة الرفاه
ينبغي دعم النساء للمشاركة الاقتصادية عبر التجارة الإلكترونية بكافة صورها؛ لأنها تجارة تتماهى مع طبيعة النساء، وتتلاءم مع ظروفهن، والأحكام الشرعية الخاصة بهن من حيث إلزامهن بالستر والحجاب، وحثهن على القرار في البيوت، ومنحهن حق العمل والذمة المالية الخاصة، كما دلت التجارب العديدة أن رفاه النساء ينعكس على الأسرة بأكملها، خاصة الأسر الأشد فقراً واحتياجاً؛ حيث تهتم النساء بتقديم الطعام الصحي للأطفال، ومنحهم فرص تعليم أكثر تميزاً في ظل مجتمع عالمي تتزايد فيه الهوة بين الأثرياء والفقراء يوماً بعد يوم، فينبغي للمؤسسات العاملة في مجال التنمية تقديم الدعم والمساعدة للنساء وتدريبهن على صور التجارة الإلكترونية المتنوعة، والتعرف على خباياها وتفاصيلها وكيفية الوصول لأكبر قاعدة من العملاء، وبناء جسور الثقة معهم، وتقديم خدمة أو سلعة مميزة تحقق عائداً عادلاً ومناسباً سوف يكون له أثر مستقبلي لا على النساء فقط، بل على أسر بأكملها.