استعادت العنصرية العديد من قوالب الماضي الفاشستية والنازية، ولكن في قالب مبتكر جديد اصطلح على تسميته بهذا الاسم (اليمين المتطرف) الذي اكتسب الكثير من الزخم بتحقيقه نتائج مرتفعة بالانتخابات في السنوات القليلة الماضية، وقد تطورت أجندته ليحتل العداء للمهاجرين واضطهاد المحجبات المرتبة الأولى؛ وهو ما يندرج تحت مفهوم العنصرية الثقافية المنبثقة والمشتبكة في الوقت ذاته مع عنصرية العرق والجنس، ونظرية تفوق الرجل الأبيض.
ولعل الجانب الأكثر إثارة ودهشة أن الكثير من المحجبات المضطهدات هن مواطنات أصيلات من ذات العرق والجنس ولون البشرة، وعلى الرغم من ذلك تتفوق العنصرية الثقافية الإقصائية على الجنس والعرق المشترك.
ربما ما حدث في أكتوبر الماضي يعد نموذجاً مثالياً لما نطلق عليه ظاهرة اضطهاد المحجبات من قبل اليمين المتطرف، والقصة باختصار أن مسلمة محجبة تدعى «فاطمة» اصطحبت ابنها في رحلة مدرسية إلى مجلس بلدية «بورغوني فرانش كومتي» بشرق فرنسا للتعرف عن قرب على طريقة عمل إحدى آليات الديمقراطية الفرنسية، ولكن أحد أعضاء المجلس ممن ينتمون إلى حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف طالب الأم باسم مبادئ الدولة العلمانية بخلع الحجاب أو مغادرة القاعة، وتطاول عليها بكلام عنصري، لكن الصدمة الحقيقية وقعت على الابن الذي شاهد الاعتداء والإهانة والإذلال الذي تعرضت له أمه؛ فأصابه الهلع وانخرط في البكاء، وهنا احتضنته الأم وغادرت القاعة، ولكن إحدى عضوات الحزب قالت لها بتهكم وهي تغادر: «سترين، سوف ننتصر عليكم»!
وعلى الرغم من التعاطف مع الأم المحجبة على وسائل التواصل، فإن وزير التعليم «ميشيل بلانكي»، وبعد أن استنكر الإهانة التي تعرضت لها السيدة المحجبة، قال أيضاً: «إن الحجاب أمر غير مرغوب به في مجتمعنا».
ولقد وافق مجلس الشيوخ الفرنسي الذي يسيطر عليه اليمين المتطرف على المادة الرئيسة في قانون يحظر على الأشخاص ارتداء ملابس مميزة لأديان مثل الحجاب الإسلامي عند مرافقة أطفال خلال رحلات مدرسية.
وقالت السيناتور «جاكلين يوستاش برينيو» من حزب «الجمهوريون» المحافظ: «إن المقترح يستهدف إعادة التأكيد على مبادئ العلمانية والحياد الديني في النظام التعليمي وحماية الأطفال من التبشير»، وعند تحليلنا لهذه الكلمات نلحظ صناعة واستثمار الخوف من الإسلام في صك مزيد من القوانين التي تضطهد المحجبات وتمنعهن قسراً من الاندماج في المجتمع.
قوانين مسيئة
لعل ما سبق الحديث عنه من قانون فرنسي في طور الإعداد يمنع الأمهات المحجبات من اصطحاب أطفالهن هو بمثابة إحكام إغلاق دائرة اضطهاد المحجبات حتى لا يجدن متنفساً صغيراً للحياة بحجابهن ولو كمجرد أمهات، بعد «قانون حظر الحجاب الإسلامي في المدارس العمومية» الذي صدر في عام 2004 تحت رعاية الرئيس الفرنسي السابق «جاك شيراك».
يعد اليمين الفرنسي المتطرف –إذن- رائداً في سن قوانين رسمية تضطهد المحجبات؛ ليخلق بها مناخاً من الخوف من الإسلام ومن الحجاب يستثمره في كسب مقاعد انتخابية، وهي نفس الإستراتيجية التي اعتمدها اليمين المتطرف في باقي بلدان القارة العجوز لكسب تأييد الشارع؛ ففي النمسا صادق مجلس النواب النمساوي على مشروع قانون يمنع ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية، وعلى الرغم من أن القانون لم يذكر لفظ الحجاب، وإنما استخدم لفظ غطاء الرأس، فإن الحكومة أوضحت أن الحظر لا يشمل العمامة التي يضعها السيخ على رؤوسهم ولا القلنسوة اليهودية؛ وهو ما يؤكد أن الحجاب الإسلامي فقط هو المقصود، وهو ما أكده النائب «رودولف تاشنر»، المنتمي إلى حزب المحافظين، أن النص ضروري لحماية الفتيات من «الاستعباد»، وهو نفس التشبيه المسيء للمحجبات الذي سبق أن أطلقته «لورانس روزينيو»، وزيرة حقوق المرأة الفرنسية السابقة، حين قالت: «هناك نساء يخترن ارتداء الحجاب كما كان هناك أفارقة زنوج وأمريكيون يفضلون العبودية».
وبمجرد صدور القانون في النمسا، أعلنت الحكومة الألمانية أنها تفكر بفرض حظر على ارتداء التلميذات في المدارس الابتدائية الحجاب الإسلامي، والسؤال الذي يطرح نفسه: كم عدد التلميذات اللاتي يرتدين الحجاب في المرحلة الابتدائية (وغالباً هن تحت سن البلوغ والتكليف) حتى يسن قانون خاص بهن ويأخذ كل هذا الزخم الإعلامي الذي لا يشكل مشكلة حقيقية في الواقع؟!
الإجابة لا يمكن أن نجدها إلا عند اليمين المتطرف الذي يؤسس خبراء صناعة الخوف في صفوفه لجعل الحجاب فزاعة تتجاوز كل القيم الغربية الحداثية كالمواطنة والحرية والمساواة.
الحجاب «فوبيا»
على أن الاضطهاد الحقيقي للمحجبات يجدنه في الشارع الذي استقطب اليمين المتطرف قطاعات كبيرة منه، ولعل حادث الصيدلانية المصرية المحجبة مروة الشربيني في ألمانيا عام 2009م التي أطلق عليها «شهيدة الحجاب» هو الأشهر؛ حيث بدأ الجاني بسبها في حديقة أطفال بشتائم عنصرية؛ لأنها ترتدي الحجاب، وانتهى بطعنها في المحكمة 18 طعنة أودت بحياتها.
على أن سلسلة الاضطهادات التي تتعرض لها المحجبات في الشارع من قبل هؤلاء اليمينيين العنصريين لم تتوقف؛ ففي ألمانيا أيضاً وبعد عشر سنوات من الحادث السابق وفي نفس المدينة هاجم شابان فتاة عراقية (11 عاماً) ونزعا الحجاب عن رأسها، فقد قام أحدهما (17 عاماً) بجذبها من شعرها وأسقطها على الأرض، بينما ركلها الشاب الثاني (16 عاماً)، وقامت رفيقته بسد فمها، مرددين عبارات اليمين المتطرف الشهيرة أثناء الاعتداء عليها: «ماذا تريدون منا؟ عودوا إلى وطنكم!».
ولعل ملاحظة الأعمار الصغيرة للضحية وللمعتدين تكشف مدى تغلغل الأفكار العنصرية في الأجيال الشابة.
وفي برلين تعرضت سيدتان للضرب في محطة قطار بسبب ارتدائهما الحجاب من قبل متطرف الذي تعمد ضرب إحداهن على بطنها وكانت حاملاً، بينما نجت السيدة الأخرى من لكمة على وجهها.
حتى البنات صغيرات السن المحجبات يتعرضن للإيذاء، ففي ألمانيا بمنطقة نويكولن أيضاً حاولت سيدة نزع الحجاب عن رأس طفلة (12 عاماً)، ووجهت إليها شتائم وعبارات معادية للمهاجرين والإسلام، وهددتها بوخزها بإبرة داخلها دم، ورشّ وجهها بغازات مسيلة للدموع.
ولعل ما أعلنت عنه السلطات في ألمانيا من ظهور دوريات غير رسمية في شوارع بعض المدن تم تشكيلها من قبل المتطرفين اليمينيين، الذين يسعون لتنفيذ الأجندة الخاصة بهم؛ ما يثير الكثير من القلق سواء للمهاجرين أو المحجبات.
بالطبع لا يمكن حصر كل الحوادث المسيئة والعنصرية التي تتعرض لها المحجبات من قبل هؤلاء المتطرفين اليمنيين؛ ففي أستراليا اعتداء على محجبة حامل في الشهر التاسع، وفي النمسا ركل سيدة مسنة محجبة والتسبب في كسر بالعمود الفقري لها، وفي بريطانيا دفع امرأة محجبة أمام قطار، وفي أمريكا اعتداء وحشي على سيدة محجبة داخل المستشفى، وأخرى يتم ركلها في الطريق.. إلخ.
إن جرائم الكراهية والعنصرية ضد المحجبات تتجاوز الاعتداء البدني المباشر، أو محاولات خلع الحجاب عنوة، فكثيراً ما يكون الحجاب هو المانع الحقيقي للحصول على الجنسية، أو عدم حصول المحجبة على وظيفة ما رغم استيفائها لكافة الشروط المطلوبة لشغلها، أو نظرة الصد والرفض أو حتى العداء التي قد تصادفها أثناء محاولة اندماجها في المجتمع.
يمكننا القول إذن: إن اليمين المتطرف حقق نجاحات نسبية متزايدة في صناعة «الحجاب فوبيا» في الوعي الجمعي الغربي، مستغلاً إستراتيجيته المتمثلة في العنصرية الثقافية الاستعلائية التي جذبت الناقمين على قيم الحداثة التقليدية بأحزابها المعروفة الذين وجدوا في الحجاب رمزية ظاهرة مغايرة أسقطوا عليها كل المخاوف التي بثها اليمين المتطرف في رحلته للبحث عن عدو أو صناعة عدو.
وعلى الرغم من بذل كثير من العقلاء جهوداً صادقة في تغيير هذه الصورة الذهنية عن الحجاب والمحجبات كمقدمة لا بد منها للتعامل معهم بعدالة ومساواة، فإن المعركة بينهم وبين أنصار اليمين المتطرف لا تزال محتدمة.