السلطات الثلاث (القضائية، والتشريعية (الشورية)، والتنفيذية) التي يؤكد ضرورتها ولزوم قيامها كل الدستوريين والباحثين في شؤون قيام الدول وفقهها، وأسس نجاحها، لا شك أن لها أهميتها البالغة في ضبط الحياة ومسارها، وبدونها تكون الفوضى، ويحدث الإرباك الشديد، بل لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها، ووجدت الأجهزة المساندة حتى تساعد على نجاح عمل هذه السلطات؛ مثل جهاز الشرطة وأمثاله، كما رسخت قوانين رادعة، ومنها قوانين العقوبات، كل ذلك حتى تتحقق معاني الأمن والأمان، ويكون الناس بسلام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الإسلام يقر هذه الحقيقة، ويدفع نحو نجاحها، حتى قال الخليفة الراشد، تعبيراً عن هذا المعنى: “إن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن”، وهذه طبيعة الناس، فلا يساسون إلا بسلطة، ولا ينضبطون إلا بهيبة قانون، ولا يترك الناس على وجدانهم، وما تجود به قرائحهم الضمائرية، ولا على ما تحمله نفوسهم، من مفردات الخير المفترضة في فطرة الناس، على ما يحلم به بعض الفلاسفة، ويقول به بعض الذين يعيشون في أبراج أفكارهم الغريبة، وفي الحقيقة هذا تفكير خيالي، ليس له من رصيد الواقع شيء، بل كل دراسات علم النفس، وقواعد الاجتماع، تؤكد أن لا قيام للحياة بحق إلا من خلال سلطة ضابطة حاكمة، والناس من فجر التاريخ يعملون هذا ويؤكدون حقيقته، والمدن الفاضلة بقيت حبيسة الأدراج، عرجاء بل كسيحة.
والإسلام رغم إيمانه بهذه الحقيقة آنفة الذكر، فإنه رسَّخ قيمة غاية في الأهمية، بل إن مدار كثير من شُعب الحياة عليها، هي قيمة “المراقبة لله تعالى”، هذه القيمة التي مبعثها الإيمان بالله رباً وخالقاً، وأنه مطّلع على كل شيء، وعالم بكل صغيرة وكبيرة، لا تخفى عليه خافية، في الأرض أو السماء؛ (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19)، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وقال تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ {218} وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ {219} إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الشعراء)، وقال سبحانه: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة: 1).
التربية الإيمانية
إن الذي يعيش حالة المراقبة لله بكل معانيها تأخذه رهبة، مبعثها الخوف من الله الذي يراه، ويعلم عنه كل شيء في السر والعلن، إذا جلا، وكذا إذا خلا، فلا يقدم على أمر إلا ويحسب لهذه القيمة كل حساب، وإنما تكون هذه القيمة ماثلة في حياة الفرد، ولها انعكاساتها على المجتمع والدولة، وتصبح لها آثارها التي يعرفها القاصي والداني، في مناحي الحياة كافة، وكتب التاريخ والحاضر طافحة بالأمثلة التي تبرهن على حدوث هذا الأمر، بحيث لو خلا حامل قيمة المراقبة بمحارم الله، قال: “إني أخاف الله رب العالمين”، فلا يقربها.
إنها التربية الربانية الإيمانية، التي تزرع في النفس هذا الشعور، الذي لا يغطيه قانون، ولا تضبطه شرطة، فيبرز هذا الجيل في حياة الناس.
عن أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرفعه “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (رواه مسلم)، ووصيَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أمَّته؛ عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ” (أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح).
قال ابن القيم رحمه الله في “مدارج السالكين”: من منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5) منزلة المراقبة.
وتعريف المراقبة: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة، وكل نفس وكل طرفة عين.
لهذا، فالذي يتربى على هذا الخلق يكون إنساناً صالحاً، في كل أحواله، فهو الأمين في كل ما يؤتمن عليه، لو أمَّنته على القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فلا يمد يداً، ولا يختلس فلساً، وهو الثقة الذي لا يخون ولا يتآمر على أهله وبني وطنه، ويخلص لأمته، وهو الذي يتحقق بصفات الجندية لله، فلا يفرط في الثوابت، ولا يتجاوز حداً، في البيت والشارع، في المدرسة والجامعة، مع الجيران والأصدقاء، في العمل والوظيفة، مع القريب والبعيد، في الأفعال والتروك، وكل مراتب الأمر والنهي، سياسة واجتماعاً واقتصاداً، ويكون في الفضاء العام، كما إذا كان في الغرف المقفلة، قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18).
بين الصوم والمراقبة
أما ربط قيمة المراقبة بالصيام، فالصوم من أعظم العبادات التي تدرب المرء على هذه القيمة؛ لأنه يصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو محافظ على هذا الصيام، دون أن يحدث أي خرق لسياج هذه العبادة، يفعل ذلك أمام الناس، وكذلك لما يخلو بنفسه بعيداً عن رقابة البشر.
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، ولا ريب أن من أعظم مسائل تقوى الله تعالى التحقق بقيمة “المراقبة”، بل هي مدار الأمر في الصلاح والخير والتقى، وبأصحابها ترتقي الدنيا إلى ذروة سنام الفضيلة، فالذي يخشى الله في السر والعلن هو الإنسان الصالح، أما ذاك الذي يكون في العلن شيئاً، وفي السر شيئاً آخر، فلا شك أنه على خطر عظيم، وخلق ذميم، وسلوك منحرف، قد يصل بصاحبه إلى حالة النفاق.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة” (رواه البخاري ومسلم).
قال الحافظ ابن عبد البر: “وقوله: “الصيام لي وأنا أجزي به”؛ معناه -والله أعلم- أن الصوم لا يظهر من ابن آدم في قول ولا عمل، وإنما هو نية ينطوي عليها لا يعلمها إلا الله، وليست مما يظهر فيكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر أعمال الظاهر؛ لأن الصوم في الشريعة ليس هو بالإمساك عن الطعام والشراب دون استشعار النية، واعتقاد النية بأن تركه الطعام والشراب والجماع ابتغاء ثواب الله ورغبته فيما ندب إليه تزلفاً وقربةً منه، كل ذلك منه إيماناً واحتساباً لا يريد به غير الله عز وجل، ومن لم ينو بصومه أنه لله عز وجل فليس بصيام، فلهذا قلنا: إنه لا تطلع عليه الحفظة؛ لأن التارك للأكل والشرب ليس بصائم في الشرع إلا أن ينوي بفعله ذلك التقرب إلى الله تعالى بما أمره به ورضيه من تركه طعامه وشرابه له وحده لا شريك له لا لأحد سواه”.
إذن؛ فالصوم يربي فينا هذا الخلق العظيم، وهذه القيمة النبيلة الحافظة من الشرور والسوء، بحيث إن الذي يتخلق بهذا الخلق، قد يصل به الأمر إلى أنه إذا ارتكب جرماً في ساعة غفلة، بينه وبين نفسه، يذهب بنفسه إلى الجهاز المعني ليسلم نفسه، ويعترف بخطيئته، وما حادثة ماعز وقصة الغامدية رضي الله عنهما عنا ببعيد، بل هي في صحاح السُّنة.
إن قيمة المراقبة تصنع فينا هذا المعنى المبارك، وبه نتحرر من ازدواجية الفصام النكد بين القول والعمل، وبين النظرية والتطبيق، لذلك كان بعض الصالحين، يرددون مقولة: “يا من تراني ولا أراه” تذكيراً لنفسه، حتى لا تزل ولا تضل ولا تغفل ولا تتيه، وكانوا يعلّمون أبناءهم على هذا، إنه الالتزام بمعناه المتميز، الذي يجعل الحياة تشرق بالخير، وتضيء بالقيم، وتطمئن بذكر الله، فطوبى لمن تربى على هذه القيمة، ذات الشرف الرفيع، والمنار المنيف.