هذه الحلقات المتتابعة في أفكارها هي مجرد مُمَهِدَات مقدمة إلى الحركة الإسلامية في بنائها الجديد المنتظر، فأغلب أبناء الحركة والمتابعين لها يؤكدوا على ضرورة تجديد البناء، والتجديد في فكرنا الإسلامي وتراثنا يرتبط بتغيير الأفكار لا يتغير الهياكل أو الشكل – وإن كان ذلك مطلوبًا في وقت ما- ومن ثم جاءت هذه المُمَهِدَات المعرفية – والتي هي عبارة عن: استبطان ذاتي لأحد أبناء هذه الحركة الذي عاش فيها عن قرب تارة وبعد تارة أخرى، ما يقرب من ربع قرب، واهتم بأمرها وشأنها وما زال، يؤلمه ألمها، ويحزنه ما صارت فيه وإليه.. لذا فهذه الرؤية أو المُمَهِدَات المعرفية، تعتبر رؤية للإصلاح والتجديد من داخل الحركة وليست من خارجها.
إعادة اكتشاف الإسلام
نشأت الحركة الإسلامية استيعابًا لجهود حركة تجديد داخلية في الأمة، على يد عدد من المصلحين الذين أحسوا مرارة ذلك التناقض بين حالة المسلمين وبين مقاصد الوحي من جهة، وبين المسلمين والواقع العالمي من جهة أخرى فكان السؤال الكلي آنذاك هو ما طرحه الأمير شكيب أرسلان (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟) وقد حاول كل المصلحين الإجابة على هذا التساؤل كل من وجهة نظره ووفقًا لما يتكشف له من حقيقة الذات المسلمة ومن مشروعها على هذه الأرض ..
واتجهت كل هذه الجهود – التي ورثتها الحركة الإسلامية – إلى عنوان كبير لمشروعها الثقافي والفكري وهو ( إعادة اكتشاف الإسلام ) وتقديمه للمسلمين وعرضه عليهم من جديد ليعرضوا واقعهم عليه ويعرضوا أنفسهم عليه كذلك ..
ومن هنا كانت الحركة الإسلامية (مشروعًا لا مدرسة) فالمشروع من الاتساع والانفتاح والقدرة على التوعية ما يمكن معه تحقيق هدفيته وهي (الهداية) فالإسلام مشروع هداية لا مشروع تحصل أو مكسب (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [ وقد وردت مشتقات لفظة الهدى أكثر من مائتي مرة في الوحي ]..
أما المدرسية فهي من القولبة بمكان أن يضمر فيها التنوعية والخلاقية والإبداعية وهذه الخصائص هي سمات العصر الأول الذي آمن بأن الإسلام مشروع هداية للناس، لا مدرسة حصرية لفئة من الملتزمين أو المؤمنين بمبادئ المدرسة ..
ومن هنا تختلف نتائج سعي المشروع عن نتائج سعي المدرسة .. فالأولى (سعي المشروع) ليست لها حدود وليس لها وطن وهو العالمية الحقة لهذا المشروع الإنساني (الإسلام) أما الثانية (سعي المدرسة) فينتج عنها التقليد المذموم في مآلاته والتعصب الشديد في وجدانه لهذه المدرسة (الحصرية)، وينقلب الإسلام في حالة أنه مدرسة إلى عصبية نفسية وحالة ذهنية متجمدة لدى معتنقيه (بالمناهج المحدودة والمقررات الجامدة المتقولبة لهذه المدرسة).
إن متطلب هذا الاحتياج (العودة إلى المشروع: إعادة اكتشاف الإسلام) هو إعادة اكتشاف الذات الإنسانية أولًا، والتحرر من الكهوف التي وضعتها المدرسة (كهف المعلم، وكهف المنهج، وكهف الوسيلة) ثانيًا، استدعاء منهج التعرف على الإسلام من جديد من الإسلام ذاته وقد ضمن الله حفظ الوحي وعدم تحريفه .. وهذه أمور لا أحسبها باليسيرة، ولكني أحسبها من الضرورة بمكان لواقع الأمة ومشروع الحركة.
إعادة الاعتبار لمركزية عالم الأفكار وقيمة الفكرة
المجتمع الإسلامي ليس مجتمعاً شيوعيًا تتحكم فيه علاقات الإنتاج والذي يؤمن بأسبقية الحركة على الفكرة في تأسيس نظمه وترتيب علاقاته، وليس مجتمعًا رأسماليًا يقوم فيه رأس المال بدور الإله للأفكار، ولكن المجتمع المسلم بالأساس هو مجتمع “الفكرة” التي بدأت في أول كلمات الوحي ” اقْرَأْ “، وكان التوحيد “مركز تلك الفكرة ومحورها.
إن إعادة الاعتبار للفكرة في واقع الحركة الإسلامية وبرامجها التربوية والثقافية يعالج أمرين أساسين: أولهما: ما لحق بالأمة من ظاهرة ” الشخصنة” في أحكامها والتي تتحدد في معناها البسيط من قبول كل أفكار شخص ما لمجرد أنها صادرة من ذلك الشخص، أو رفض فكرة ما لمجرد صدورها من شخص بعينه ( دون تفحص لجوهر الفكرة أو تقييمها بالميزان الرأسي للمسلم) (الوحي) وطرح الفكرة على الميزان الأفقي للمسلم وهو ميزان الهوى والتحيز).
إن انتشار هذه الظاهرة يعلن بوضوح ضعف قيمة الفكرة في المجتمع المسلم وإعلاء قيمة الذاتية والشخصنة أو عالم الأشخاص فإذا كانت علاقات الإنتاج تتحكم في الأفكار في المجتمع الشيوعي ورأس المال يتحكم في الأفكار في المجتمع الرأسمالي، فإن المجتمع المسلم المعاصر – وفي قلبه الحركة الإسلامية- يتحكم الأشخاص في الأفكار.
والأمر الثاني: الذي هو بالتبعية لظاهرة “الشخصنة” هو ظاهرة ” التحيز الأعمى” الذي لحق بقطاعات كبيرة في مجتمعنا وفي الحركة، وذلك لانطفاء ميزان الفكرة في العقل والوجدان، وأصبح السباق الشخصي المحموم على السيطرة على أماكن هذا الانطفاء في العقل والجدان من جانب الأشخاص المحترفين في تلك السيطرة. ومن هنا فإن المتطلب الذي نراه في هذا الاحتياج الذي عنوانه (إعادة الاعتبار لمركزية عالم الأفكار وقيمة الفكرة) يتمثل في عدة جوانب منها:
1. إعادة بناء المنهاج التربوي للحركة الإسلامية على مركزية الأفكار لا الأشخاص.
2. تغليب مركزية الفكرة في بناء القوانين و اللوائح والنظم الناظمة لعمل الحركة.
3. أن تخضع جميع مؤسسات الحركة إلى هذا الاعتبار وتلك المركزية الفكرية.
4. أن تخضع جوانب التقييم في مسيرة الحركة خلال القرن الماضي من عمرها إلى الميزان الرأسي مصدر أفكار الأمة (الوحي).