هو عبدالعزيز بن عبدالسلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمدبن مُهَذَّب السُّلَمِيّ شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سُلطانُ العلماء، إمام عصره بلا مُدَافَعة، القائمُ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكَر في زَمانه، المُطَّلِعُ على حقائق الشريعة وغوامضِها، العارِفُ بمَقاصدِها، لم يرَ مثلَ نفسِه، ولا رأى مَن رآه مثلَه، عِلماً وورعاً وقياماً في الحق وشجاعةً وقوة في جَنان وسَلاطَةَ لسان.
ولد سنة سبعٍ أو سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة.
تفقّه على الشيخ فخرِ الدين ابن عساكر، وقرأ الأصولَ على الشيخ سيف الدين الآمِدِيّ وغيرِه، وسَمِع الحديثَ من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وشيخِ الشيوخِ عبدِاللّطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغداديّ.
روى عنه تلامذتُه؛ شيخُ الإسلام ابن دَقِيقِ العيد، وهو الذي لَقَّب الشيخَ عزَّ الدين سُلْطانَ العُلماء، والإمامُ علاء الدين أبو الحسن الباجِيّ، والشيخ تاجُ الدين ابن الفِرْ كاح، والحافظ أبو محمد الدِّمْياطيّ.
درَّس بدمشقَ أيام مُقامِه بها بالزاوية الغَزَّلية وغيرِها، ووَلِي الخَطابة والإمامةَ بالجامع الأموِيّ.
قال الشيخُ شهابُ الدِّين أبوشامةَ أحدُ تلامذةِ الشيخ: وكان أحقَّ الناس بالخَطابة والإمامة، وأزال كثيراً من البِدَع التي كان الخُطباء يفعلونها؛ من دَقِّ السَّيْفِ على المِنْبر وغير ذلك، وأبطل صلاتي الرَّغائب ونِصْفِ شَعْبانَ، ومَنع منهما.
سمعت الشيخَ الإمامَ رحمه الله يقول: سمعت شيخَنا الباجِيَّ يقول: طلع شيخُنا عِزُّ الدين مرّةً إلى السلطان في يومِ عيدٍ إلى القامة، فشاهد العساكر مُصْطفِّين بينَ يديه ومجلسَ المملكة وما السلطانُ فيه يومَ العيد من الأُبَّهة، وقد خرج على قومه في زينتِه على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراءُ تقبِّلُ الأرضَ بينَ يدَي السلطان، فالتفت الشيخُ إلى السلطان وناداه: يا أيّوبُ، ما حُجَّتُك عند الله إذا قال لك: ألم أُبوّئُ لك مُلكَ مِصْر ثم تبيح الخمورَ؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفُلانيّة يُباع فيها الخمور وغيرُها من المنكَرات، وأنت تتقلَّب في نِعْمةِ هذه المملكة، يناديه كذلك بأعلَى صوته، والعساكر واقفون، فقال: يا سيّدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي، فقال: أنت من الذين يقولون: «إنَّا وَجَدْنَا آباءَنَا عَلَى أُمّةٍ»، فرسَم السلطان بإبطال تلك الحانة.
سمعت الشيخَ الإمام يقول: سمعتُ الباجيَّ يقول: سألت الشيخَ لمّا جاء من عند السُّلطان وقد شاع الخبر: يا سيِّدي، كيف الحال؟ فقال: يا بُنَيَّ، رأيتُه في تلك العظمة فأردت أن أهِينَه لئلّا تكبُر نفْسُه فتؤذِيَه، فقلت: يا سيِّدي، أما خِفْتَه؟ فقال: واللهِ يا بُنَيَّ، استحضرتُ هَيْبةَ الله تعالى، فصار السلطان قُدَّامي كالقِطّ.
وحكى قاضي القضاة بدرُ الدِّين بنُ جماعةَ، رحمه الله، أنّ الشيخَ لمّا كان بدِمَشْق وقع مرّةً غلاءٌ كبير حتى صارت البساتين تُباع بالثمن القليل، فأعطتْه زوجتُه مَصاغاً لها وقالت: اشتر لنا به بُستاناً نَصِيفُ به، فأخذ ذلك المَصاغَ وباعه وتصدَّق بثمنِه، فقالت: يا سيِّدي، اشتريتَ لنا؟ قال: نعم، بستاناً في الجنّة، إني وجدت الناس في شدَّةٍ فتصدَّقتُ بثمنِه، فقالت له: جَزاك الله خيراً.
وحكى أنه كان مع فقرِه كثيرَ الصَّدقات، وأنه ربّما قَطع من عِمامته وأعطى فقيراً يسأله إذا لم يجد معه غيرَ عِمامتِه.
قال شيخ الإسلام ابنُ دقيق العيد: كان ابنُ عبداِلسَّلام أحدَ سلاطينِ العلماء.
وعن الشيخ جمال الدين ابن الحاجِب أنه قال: ابنُ عبدِالسَّلام أفقهُ من الغزّالِيّ.
ذكر واقِعة التَّتار وما كان من سُلْطان العُلماء فيها:
استشاروا الشيخ عِزَّ الدِّين، رحمه الله، فقال: اخرُجوا وأنا أضْمَن لكم على الله النَّصرَ، فقال السلطان له: إن المالَ في خزانتي قليلٌ، وأنا أريد أن أقترضَ من أموال التُّجَّار.
فقال له الشيخُ عِزُّ الدِّين: إذا أحضرتَ ما عِندك وعِند حَريمِك، وأحضر الأمراءُ ما عِنْدَهم من الحُليّ الحرامِ، وضَرَبْتَه سكَّةً ونَقْداً، وفرَّقته في الجيش ولم يَقُم بِكفايتهم، ذلك الوقتَ اطلُبِ القَرْضَ، وأما قَبْلَ ذلك فلا، فأحضر السلطانُ والعسكرُ كلُّهم ما عِنْدَهم من ذلك بين يدي الشيخ، وكان الشيخ له عظمةٌ عِندَهم وهَيْبةٌ بحيث لا يستطيعون مخالفتَه، فامتثلوا أمرَه، فانتصروا.
ذكر كائنة الشيخ مع أمراء الدولة من الأتراك:
وهم جَماعةٌ ذُكِر أن الشيخَ لم يثبُتْ عِنْدَه أنهم أحرارٌ، وأن حُكْمَ الرِّقّ مُسْتَصْحَبٌ عليهم لِبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، فعَظُم الخَطْبُ عندهم فيه، وأُضْرِم الأمرُ، والشيخ مصمِّمٌ لا يصحِّح لهم بيعاً ولا شِراء ولا نِكاحاً، وتعطَّلتْ مصالحُهم بذلك.
فقال: نَعْقِد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصُل عِتْقُكم بطريقٍ شرعي.
قال: أنادي عليكم وأبيعكم، قال: ففيم تَصْرِف ثمنَنا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: مَن يَقْبِضُه؟ قال: أنا.
فتمَّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحِداً واحداً، وغالَى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير، وهذا ما لم يُسْمَع بمثله عن أحد، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ومن تصانيف الشيخ عزِّ الدين «القواعِد الكبرى»، وكتاب «مجاز القرآن»، وهذان الكتابان شاهدان بإمامته وعظيم منزلته في علوم الشريعة.
توفي في العاشر من جُمادى الأولى سنة ستين وستمائة بالقاهرة، ودُفِن بالقرافة الكبرى رحمه الله تعالى(1).
الفوائد التربوية والإيمانية:
– السعي لطلب العلم عبر العلماء المتخصصين المعتبرين سمة لازمة لعلماء الأمة وأئمتها الأجلاء العظماء.
– العالم الرباني لا يستغني عن تعليم الناس وتدريسهم في المسجد أو في المدرسة والناس لا يستغنون عن ذلك.
– حياة الفرد بالأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعلم ودراية وإخلاص.
– العالم الصادق المخلص يبلغ دين الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوصل كلمة الحق لمن يعنيه الأمر ولو كان حاكماً أو والياً أو مسؤولاً.
– إن تبليغ رسالة الإسلام للناس من سمات العلماء الربانيين والمؤمنين الصادقين الذين يخشون الله وحده ويحبونه؛ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب: 39).
– إن الأمة إذا تركت الحق واتبعت الباطل فسيذهبها الله ويأتي بأقوام آخرين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وما ذلك إلا لأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54).
– من أرضى الله تعالى بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.
– لا يستغني أحد عن بركات الصدقة وأجرها وحسناتها وخيراتها ولو كان فقيراً!
– إنفاق الحاكم وأهله وحاشيته وقت الأزمات والكوارث والحروب يساهم في دفع الكوارث والكربات ويجعلهم محل القدوة والتوبة والمعروف والإحسان.
والحمد لله رب العالمين.
_______________________________________________
(1) عبدالوهاب بن علي السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، ج8، تحقيق: عبدالفتاح محمد الحلو، محمود محمد الطناحي.