– التعليم الإلكتروني لا يعني أن يؤدي الطالب دور المتلقي السلبي دون أي اعتبار لمحتوى المادة والتفاعل مع المدرس
– ليست كل مناطق المملكة يتم تغطيتها بشبكة إنترنت قوية ولا يمتلك جميع الطلبة والمدرسين أجهزة حواسيب
– على متخذ القرار مراعاة اعتبارات كوجود استثمارات بالملايين للقطاع الخاص واكتساب الطلاب للمهارات الشخصية
– يجب تشديد تدابير الخصوصية والأمان والإجراءات التنظيمية لمنع الغش في الامتحانات
في الأردن أكثر من مليوني طالب مدرسي، وأكثر من ربع مليون طالب جامعي، توقفوا عن التعليم التقليدي كإجراء احترازي لمنع تفشي وانتشار مرض “كوفيد-19” في أوساط الطلبة؛ مما أحدث تغييراً في طرق التعليم التقليدية، وبقرار مفاجئ جاء بعد بدء العملية التعلمية بحوالي شهر ونصف شهر، ودفع نحو تحول جذري تجاه منصات التعلم عن بُعد لضمان استمرار عملية التعليم من غير سابق تخطيط، لنجد أنفسنا أمام تجربة جديدة من نوعها تتطلب اتباع نهج جديد في آليات التدريس والتواصل والتقييم وتفاعل الطلاب وحوسبة المناهج والاختبارات وغيرها من العمليات التعليمية على المستويين؛ العام (المدرسي)، والعالي (الجامعات).
وقبل ذلك لم يكن التعليم عن بُعد شائعاً في المدارس والجامعات باستثناء محاولات فردية وجزئية هنا وهناك، وكثير من الأساتذة والطلبة لم يتوقع أن يجد نفسه مجبراً على هذا النوع من التعليم، ولم يكن بالأصل مهيأ له.
كغيره من إستراتيجيات التعليم، يأتي “التعليم عن بُعد” مع مجموعة من الإيجابيات والسلبيات، بالإضافة إلى ذلك أنه لا يمكننا توقع نتائج مثالية من هذه التجربة؛ نظراً للسرعة الفائقة التي اضطرت فيها المدارس والجامعات إلى الانتقال لهذه الإستراتيجية للحفاظ على استمرارية تعليم الطلبة باعتباره أولوية قصوى دون أن يكون هناك أي تحضير أو تدريب مُسبق.
ولتقييم تجربة الأردن في هذا النوع من التعليم لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المحاور التالية: البنية التحتية للتعليم عن بُعد، تفاعل المدرسين والطلبة، دور الوزارات ذات العلاقة بسن التشريعات والقوانين لهذا التعليم.
أولاً: البنية التحتية للتعليم عن بُعد:
ونقصد بالبنية التحتية توافر الأجهزة المناسبة وشبكة الاتصالات القوية والبرامج التعليمية والمنصات الإلكترونية وعملية حوسبة المناهج، بالإضافة إلى جاهزية وكفاءة أطراف العملية التعليمية من إداريين تربويين وأعضاء هيئة تدريس في الجامعات ومعلمين في المدارس وطلاب، بما يضمن أكبر قدر من الفائدة المرجوة للطالب أولاً واستمرار العملية التعليمية.
ولا بد من الإشارة إلى الدور الكبير الذي قامت به وزارة التربية والتعليم الأردنية ووزارة التعليم العالي من جهود في إنشاء المنصات الإلكترونية وحوسبة المناهج وتوفير الدورات التدريبية المحوسبة والاستفادة من القنوات التلفازية، ومحاولة الوصول لأكبر شريحة ممكنة من المعلمين والطلاب، وتغطية أكبر قدر ممكن من المادة الدراسية ضمن الإمكانات المتوافرة، وكذلك ما قامت به العديد من المدارس الخاصة من ممارسة دور إيجابي وتسخير كافة الإمكانات لتسهيل عملية التعليم والوصول بها لمرحلة متقدمة في ظل ما تمتلكه من تقنيات وموارد مادية وبشرية متميزة.
لكن من زاوية أخرى، رأينا ضعفاً في البنية التحتية، وتفاوتاً كبيراً بين العديد من المناطق؛ إذ ليست كل مناطق المملكة يتم تغطيتها بشبكة إنترنت قوية، ولا يمتلك جميع الطلبة والمدرسين أجهزة حواسيب للقيام بعملية التعليم عن بُعد بالشكل المطلوب؛ ما يعني عدم تحقيق المساواة في العملية التعليمية.
في السياق ذاته، أطلقت وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع مؤسسة الإذاعة والتلفزيون قناتَيْ “درسك” (1) و(2)؛ لتقديم حصص للطلبة من الصف الأول الأساس وحتى الصف الحادي عشر، فيما تخصصت القناة الرياضية الأردنية بتقديم دروس لطلبة الثانوية العامة، إلا أن هذه القنوات قدمت دروساً لبعض المواد مثل الرياضيات واللغة العربية والإنجليزية والعلوم، بينما لم يتم تغطية بقية المواد وترك الطالب وحده ليدرسها، بالإضافة إلى عدم مراعاة البرامج الدولية التي يقدمها التعليم الخاص، التي تنتهي بالشهادات الدولية التي تكافئ التوجيهي الأردني، فهؤلاء الطلبة تُركوا لما تقدمه مدارسهم دون أي رقابة أو اهتمام من قبل الوزارة.
أما بخصوص التعليم الجامعي، فبالرغم من بعض المبادرات هنا وهناك؛ مثل قيام الجامعة الأردنية بتوفير حزم إنترنت لنحو 20 ألف طالب على نفقتها، لتمكينهم من الوصول إلى منصات التَّعلم الإلكتروني، وإعلان منصة” إدراك “للتعلم المدرسي عن تفعيل شراكتها مع شركات الاتصالات المحلية (زين ،وأورانج، وأُمني)؛ حيث سيتمكن المستخدمون في الأردن من تصفُّح محتواها وتنزيل المواد الدراسيّة التي توفرها والمصممة بشكل خاص لطلبة المدارس والمعلمين وأولياء الأمور، دون استهلاك لحزم الإنترنت للخطوط الفعالة على الهواتف الذكية.
إلا أنه بالمجمل لم تتوافر بنية تحتية تكنولوجية لدى تلك الجامعات لاستيعاب الكم الهائل من المساقات التي تقدمها الجامعات، خاصة أنها لا تمتلك الخوادم (السيرفرات) اللازمة لمثل تلك العمليات؛ مما أدى إلى عدم تمكن الطلبة والأساتذة من الدخول لهذه المنصات في كثير من الأحيان، ولم تتمكن كثير من الجامعات من عقد امتحانات نصفية نتيجة عدم القدرة الاستيعابية للخوادم لاستيعاب هذه الأنشطة المتعددة، بالإضافة إلى عدم الإعداد الكافي لأعضاء هيئة التدريس؛ حيث إن كثيراً من أعضاء هيئات التدريس في الجامعات غير ملمين بهذه التكنولوجيا من حيث القدرات التقنية واستخدم التكنولوجيا في التدريس أو توظيفها في التعليم خاصة، وكذلك عدم مراعاة وجود مساقات تدريبية وعملية مثل المختبرات التطبيقية التي تحتاج إلى لقاءات مباشرة لتعلم المهارات العملية المطلوبة.
ثانياً: تفاعل الطلبة والمدرسين:
لم يقدم التعليم عن بُعد بيئة تفاعلية بين الطالب والمدرس والمنهاج في كثير من الأحيان، فالتعليم الإلكتروني لا يعني –ولن يعني يوماً– أن يقوم الطالب بدور المتلقي السلبي الذي ترسل له المواد ضمن ملفات عبر وسائل التواصل دون أي اعتبار لمحتوى المادة أو أهمية التفاعل مع المادة أو المدرس، ودون أي استغلال لما تقدمه لنا هذه التقنيات من إمكانات هائلة لخلق غرف صفية افتراضية تفاعلية تصل لمرحلة القاعة التدريسية التقليدية وأكثر.
تركزت المعاناة بشكل أكبر لدى التعليم العالي؛ حيث تمثلت في أحيان كثيرة في إرسال المواد عبر مواقع التواصل (WhatsApp، Facebook)، والاكتفاء بهذا تحت مسمى “التعليم الإلكتروني”، وضعف قدرتهم على استخدام بعض المنصات الإلكترونية أو البرامج مثل “Zoom” أو “Moodle” أو “Microsoft”، والاكتفاء بكونها طريقة لتمرير المادة وحسب؛ نتيجة لنقص الجاهزية والتدريب.
أيضاً، فإن النسب التي يتم الإعلان عنها من قبل تلك الإدارات بتطبيق تجربة التعليم عن بُعد مبالغ فيها وليست واقعية، ولم تكن هنالك أدوات دقيقة لقياس ذلك، فدخول الطالب على إحدى المنصات ووجوده افتراضياً هناك لا يعني أنه موجود ويتابع المحاضرة.
ثالثاً: التشريعات والقوانين المنظمة:
في هذا السياق، كان هنالك غياب للسياسات أو القرارات المتعلقة بالتعليم عن بُعد مثل مصير امتحان الثانوية العامة الذي لم يعلن عن موعده إلا في فترة متأخرة، وكذلك المادة المطلوبة في الامتحان، واحتمالية حوسبة الامتحان من عدمه، ومن وضوح في السياسات التعليمية الجديدة والخطط الإجرائية والآليات الموحدة والمتبعة للتعامل مع الوضع؛ مثل عدم الحسم في بعض الأمور مبكراً؛ مثل مقترح إلغاء الفصل الدراسي الثاني، أو تمديده على حساب الفصل الصيفي، أو خيار ناجح/ راسب في الجامعات، كل ذلك يؤشر إلى أن الثقة لم تتحقق -على اختلاف الأسباب- بهذا النوع من التعليم، وأن ما شهدناه من تميز في بعض الأماكن يحتاج أن يخرج عن كونه مبادرات فردية من جامعة متميزة، أو عضو هيئة تدريس مواكب أو تخصص في جامعة ما.
حالياً، وبعد تقييم تجربة الفصل الثاني، بدأت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العمل على توفير منصة تعلم إلكتروني متطورة ومزودة بأحدث الأدوات التقنية والعلمية، بحيث تشمل جميع الجامعات الأردنية الحكومية والخاصة، ومن المتوقع أن تكون هذه المنصة التي تبلغ كلفتها نحو 450 ألف دينار أردني جاهزة قبل بدء الفصل الدراسي الثاني، كما وجه مجلس التعليم العالي، من جهته، بأن تتراوح نسبة المساقات التي تدرس عن بُعد بين 60 – 70% من مجموع المساقات لا سيما في الكليات الإنسانية.
أخيراً، فإن على متخذ القرار مراعاة اعتبارات عديدة عند اتخاذ أي قرارات تتعلق بمدى التوسع في التعليم عن بُعد معظمها اعتبارات اقتصادية، مثل وجود استثمارات بمئات الملايين من الدنانير من قبل القطاع الخاص سواء في المدارس أو الجامعات أو الكليات أو المعاهد وفرت آلاف فرص العمل؛ ما يجعلنا نفكر ملياً بأنه لا يلحق التعليم عن بُعد الضرر بهذه الاستثمارات، كذلك لا بد من مراعاة أن الطلاب يكتسبون مهارات شخصية واجتماعية من خلال تعاملهم المباشر مع زملائهم في المدرسة أو الجامعة؛ فالتعليم الإلكتروني من المنزل ليس بمقدوره سد هذه الفجوة الاجتماعية، لذلك يحتاج الطلاب والآباء إلى بذل الجهد الكافي لضمان الحفاظ على العلاقات الإنسانية، والتشجيع على التواصل مع الآخرين.
لهذا، فإن تطبيق هذه التجربة حالياً إنجاز وطني مهم يحسب للقائمين عليه، إلا أننا لا بد أن ننظر بشكل واقعي إلى الأمر وهو أن ما يقدم حالياً لا يكفي لإتمام كافة متطلبات العملية التدريسية بالشكل المطلوب، بالإضافة إلى الحاجة إلى تشديد تدابير الخصوصية والأمان والإجراءات التنظيمية لمنع الغش في الامتحانات.
____________________________
(*) دكتوراه في تكنولوجيا المعلومات.