أثارت زيارة «إيمانويل ماكرون»، الرئيس الفرنسي، الأخيرة إلى لبنان بعد الانفجار المأساوي في مرفأ بيروت (4 أغسطس 2020م) تساؤلات عديدة لدى العقل العربي المعاصر، حيث لم تكن زيارة دبلوماسية أو سياسية –كما أعلن هو- بل كانت زيارة شعبية، وجه فيها كلامه للشعب اللبناني والنخب الفكرية، وليس للسياسيين كما هو متعارف في الزيارات الدولية.
وتأتي هذه المقالة لإثارة تفكير العقل العربي –خصوصاً الأجيال الشابة منه- في التاريخ العربي الفرنسي الحديث، من خلال العروج على بعض جوانب الأصول الفكرية لتاريخ الحملة الفرنسية على الشرق الإسلامي في ضوء زيارة «ماكرون» المريبة والمثيرة للتساؤلات.
إن ما أعلنه الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، والصور التي التقطت معه، خلال زيارته الأخيرة لبيروت، تدعو العقل العربي المعاصر إلى إعادة استدعاء التفكير في الحملة الفرنسية على الشرق الإسلامي (1798م)، التي جاءت –في إعلانها الرسمي- مشابهة لحديث «ماكرون» المعاصر، وهو إنقاذ الشعب العربي والإسهام في حل أزمته المجتمعية والحضارية، وتخليصه من الفساد الذي أحدثه المماليك في بلدهم!
جاء في كلمة «ماكرون» أن الانفجار صورة لأزمة لبنان الحالية، وقال: إن هناك حاجة إلى نظام سياسي جديد، وأضاف أن التمويل متاح للبلاد لكن يتعين على قادتها تنفيذ الإصلاحات أولاً.
ومن الجدير بالذكر أن «ماكرون» أول رئيس أجنبي يزور مرفأ لبنان بعد الانفجار مباشرة (بعد أقل من يومين فقط)، وتفقد موقع الانفجار وانخرط بالناس في أماكن عديدة.
أما «نابليون بونابرت»، قائد الحملة الفرنسية الأولى على الشرق الإسلامي من مدخل مصر (1798م)، فقد أعلن في منشوره الأول احترامه وتقديره للمصريين أكثر مما يحترمهم المماليك، و»إنني أكثر من المماليك احتراماً لله ونبيه وللقرآن، وإن الفرنسيين أصدقاء للمسلمين الصادقين، وإن الله قد حكم على انقضاء دولتهم (أي المماليك)، وإن المصريين بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله تعالى عند زوال تلك الدولة»(1).
وقد وجه «نابليون» حديثه في الفئات الشعبية (المصريين عامة، وكذلك النخب من الأئمة والقضاة والأعيان)، معلناً أن الفرنسيين ما جاؤوا إلا لغاية واحدة؛ وهي «تخليص حق المصريين من يد الظالمين» (أي المماليك)، ثم ترغيب المصريين إذا قبلوا دخول الفرنسيين بود ومساعدة لهم أن يدخلوا في المناصب السامية ويكتسبوا المراتب العالية.
الأمر يدعو إذن إلى إعادة التفكير وتجديد الأصول الفكرية للحملة الفرنسية الأولى على الشرق الإسلامي؛ لنسحب منها بعض الأحكام والتعميمات على الحملة الفرنسية المعاصرة على الشرق أيضاً، لكن هذه المرة من مرفأ لبنان.
الأصول الفكرية للحملة الفرنسية
بدأ الاحتكاك بين المسلمين والغرب في العصر الحديث بالحملة الفرنسية (1798-1801م)، وهو العصر الذي بدأ ببزوغ عصر النهضة الأوروبية والتخطيط الاستعماري الغربي للعالم الإسلامي، وهذا العصر يقابله عند المسلمين حصاد الجمود والتقليد والترف، وغياب الاجتهاد وتوقف التطور الذاتي، وضعف شبكة علاقاته الاجتماعية وتفسخها في ظلال الضعف العام الذي لحق بدولة الخلافة العثمانية (1299-1924م)، وضعف حركة الإصلاح الذاتي لمعالجة الآفات الموروثة.
وبينما كان هناك نظر إسلامي يترقب تمهيدات النهضة الأوروبية في موقع الخلافة بتركيا، ويحاول الاقتراب أو بالأحرى استيراد جوانب من التطور الحادث، كان رد الفعل الغربي عنيفاً جداً في أطراف الخلافة وقلبها، التي بدأت في العالم العربي بمدافع «نابليون» على القاهرة، وخيوله في الأزهر الشريف، وصاحب هذه المدافع أقلام ومطابع الاحتلال وأفكاره؛ ففي حين كانت «الفكرة» تغيب في المجتمع الإسلامي وتتراجع مكانتها، جاءت «الفكرة الفرنسية» لتحل محل «الفكرة الإسلامية».
لقد فطن الفرنسيون من خلال قراءتهم للحضارة الإسلامية والتاريخ الإنساني لدور الفكرة وأثرها العميق في التغيير؛ لذلك فإن رمزية المطبعة والأوراق والعلماء في حملة «نابليون بونابرت» (1769-1821م) على مصر والشام لا تخلو من معنى عميق يستبطن في داخله ارتفاع قيمة الفكرة في المجتمع الأوروبي الاستعماري الجديد، في مقابل تراجع تلك القيمة في المجتمع الإسلامي الحضاري، وهو ما يعني أيضاً أن القادم ليس مجرد مدافع وهيمنة عسكرية وسياسية وتقسيم غنائم ونهب مواد خام، وفتح أسواق استهلاكية جديدة، وذلك ما تعلمه العربي في برنامجه التربوي والتعليمي وهو حق ولكنه ليس وحده، بل هناك أيضاً استهداف لعقل الإنسان ووجدانه؛ أي «الإنسان المُستعمَر» الذي يخلف الاستعمار عند الرحيل، ويقدم له خدماته دون مقابل أو بمقابل بخس، ويستمر الاستعمار على يد هذا الإنسان المحتل (المُستعمَر)، وهذا ما تنبه إليه الاستعمار الفرنسي، رائد الاستعمار على الشرق الإسلامي.
إن النظر الأولي لبدايات الاتصال أو الغزو بمعناه الواقعي التاريخي يظهر لنا عمق النظرة التي امتلكها العقل الاستعماري حيال الشرق والإسلام، ويظهر ذلك في أدواته التي استخدمها في هذا الغزو الحضاري والتبديل التاريخي لعلاقات الأمم والشعوب، كما يظهر أيضاً في استجابة الأدوات الداخلية الذاتية لتلك الشعوب نحو أهداف الاستعمار الفكرية والثقافية المرئية منها وغير المرئية.
كانت الحملة الفرنسية (1798-1801م) أولى موجات الصدام بين الغرب والمسلمين، وهي أقدم موجات الاستعمار الأوروبي، كما أنه (الصدام) كان أسوأه وأقساه بما مهد به لاحتلال الشرق معرفياً وفكرياً، والإسهام في تفاقم إشكالاته الحضارية التي كان يعاني منها، حيث أرسى أعمدة القطيعة التاريخية والحضارية بين المسلمين وتراثهم الفكري والعقدي، وتغلغل في الحياة الاجتماعية بصورة مثلت الريادة للاحتلال الأوروبي والهيمنة الثقافية وتأكيد مشروع التغريب الثقافي.
إن بدايات التغريب الأولى في مصر والعالم الإسلامي بدأت بهذه الموجة الاستعمارية -الحملة الفرنسية- وإذا كنا نشكو من اختراق القانون الغربي لمناطق سيادة الشريعة الإسلامية منذ تسلل هذا القانون –في النصف الثاني من القرن التاسع عشر- إلى «المحاكم القنصلية» ثم إلى «المحاكم المختلطة»، ثم تمددت يده إلى القضاء الأهلي على يد الاستعمار الإنجليزي وفي سلطان اللورد «كرومر» (1841-1971م) منذ عام 1883م، إن بواكير هذا الاختراق الذي داهم شريعتنا وفقهنا الوطني، حتى أجلاها عن أغلب ميادين التشريع والقضاء في بلداننا الإسلامية، إن بواكير هذا الاختراق قد كانت من آثار الحملة الفرنسية على مصر.
لقد كان مخطط المشروع الفرنسي هو تفتيت الأمة، وعلمنة الإسلام، وفرنسة اللغة، وإحلال القانون الفرنسي محل الشريعة الإسلامية وفقه معاملاتها، وبذلك تندمج العادات والأعراف الأصيلة في المجتمع الإسلامي بالقانون الفرنسي، وهو ما طبقته سلطات الاستعمار الفرنسي بالمغرب العربي(2).
إن المطبعة التي جاء بها الاستعمار الفرنسي –التي روَّج لها التغريبيون الأوائل- إنما جاءت لإحكام السيطرة على المصريين، وهي ترسم نموذجاً مخططاً للهيمنة على عقل ووجدان الإنسان في العصر الحديث، استخدمت الحملة المطبعة في المنشورات التي توجهها إلى المصريين لتزييف غايات الاحتلال وتزيينه، وكانت أولى هذه المنشورات ما وجهه «نابليون» إلى الشعب المصري مدعياً فيه أنه جاء مخلصاً لهم من الظلم، وحافظاً للملة من الضياع، ومحدثاً دولتهم من التخلف.
ويشير محمد سيد محمد إلى أهم المضامين –التي لم يذكرها المنشور- على وجهها الحقيقي، وذلك من خلال تحليل مضمونه وأهدافه برؤية إعلامية بصفته إعلام المستعمِر لشعب مستعمَر، وكانت نتائج هذا التحليل الكيفي هي(3):
1- اصطناع التناقض والخلاف بين المصريين والمماليك، والتنبيه المستمر إلى سلطة المماليك المستبدة الظالمة، الطامعة الفاشلة التي يشكل استمرارها مصدر خطر على مصالح المصريين.
2- الترويج للحكم الفرنسي للبلاد، ودعوة الناس إلى قبوله باعتباره الأساس الذي يضمن معه إنهاء استبداد المماليك وتخليص البلاد من فسادهم، وفي المقابل يُظهر الفرنسيين بأنهم القوة المخلصة التي تحرر البلاد.
3- تعزيز موقفهم بالبحث عن السبيل الذي يكفل التنويم السيكولوجي للجماهير، بالاستناد إلى شرعية دينية تكفل هذا التعزيز، ومؤداها أنهم قوة مرسلة من الله بهدف إنقاذ البلاد وتخليصها من حكم المماليك.
4- الحرص على قتل روح المقاومة في نفوس المصريين من خلال الإيحاء بأن الحرب بينهم وبين المماليك وليست بينهم وبين المصريين، ومن الواجب على المصريين أن يبتعدوا عن هذه المواجهة، وفي هذا الابتعاد خير لهم ومصلحة وعلو في الرتب.
5- التوجه إلى القوى المؤثرة في حركة المجتمع التي يسهم بعضها في تشكيل الرأي العام، فمرة يخاطب المشايخ والقضاة، ومرة يخاطب الأئمة والعلماء، من أجل تقديم صورة إيجابية لهم عند الشعب.
كانت هذه خطة فكرية عامة حاول الاستعمار الفرنسي أن ينفذها في مصر كما حاول في الجزائر، وكانت له نجاحات لا نستطيع إنكارها.
___________________________________________________
(1) محمد سيد محمد: الغزو الثقافي والمجتمع العربي المعاصر، ص183.
(2) محمد عمارة: «الاحتفال بالاحتلال أم بالاستقلال»، مجلة المسلم المعاصر، بيروت، عدد (91)، أبريل 1999، ص34.
(3) محمد سيد محمد: الغزو الفكري والمجتمع العربي، القاهرة، دار الفكر العربي، 1994، ص187.