لا تتوقف أبدا خطابات ماكرون ومساعديه المستفزة لجمهور المسلمين، بخاصة حديثهم المتكرر عن “الإرهاب الإسلامي”، و”التطرف الإسلامي”، مع أن عاقلا لا يقول إن الأقلية المسلمة في فرنسا تمثل تهديدا حقيقيا للدولة.
حين يصل الحال به حد القول إن “الإسلام ديانة تعيش أزمة في كل مكان في العالم”، فقد بلغ من الوقاحة مبلغا لم يصله أي زعيم غربي قبله.
ولا يتوقف الأمر عند الخطب والتصريحات، بل يشمل مختلف الإجراءات اليومية التي تمثل تطرف العلمانية ضد كل المظاهر الإسلامية، والتي تعتدي حتى على الحرية الشخصية التي تتبناها الدولة. وها هو يطرح قبل أيام خطة لمواجهة “التطرف الإسلامي”، كأنما هو “تسونامي” يتهدد البلاد.
بالمقابل يذهب وزير داخليته إلى “كنيس” يهودي، ويشهد احتفالا بما يسمى “عيد الغفران”، وهو احتفال ديني بطبيعة الحال، فيما تقوم الدنيا ولا تقعد إذا كتب أحدهم شعارا “معاديا” على حائط مقبرة يهودية.
يحدث ذلك في ظل هوس جديد تلبّس ماكرون في الآونة الأخيرة، يتعلق بالبحث عن أدوار في المنطقة، وقد تابع الجميع منطق الوصاية الذي تعامل من خلاله مع لبنان، وزيارته بعد ذلك للعراق، وتدخلاته في ليبيا، بجانب نشاطاته المتواصلة ضد تركيا في أكثر من ملف، وتحريضه عليها في الاتحاد الأوروبي، والذي لا يبتعد أبدا عن هوسه التقليدي بالحرب على الإسلام.
المصيبة أن ذلك يحدث في ظل هستيريا تمثلها أنظمة “الثورة المضادة” ضد ما يسمى “الإسلام السياسي”، الأمر الذي يشجّعه على المزيد من الغطرسة، لا سيما أن تلك الأنظمة قد باتت تضع تركيا في مقدمة الاستهداف، بحسبانها على “الإسلام السياسي”؛ ومواقفها ضد تركيا في ملف الصراع مع اليونان خير دليل على ذلك، وقبله الموقف من الملف الليبي، والتدخل التركي هناك، والذي لا يتوقف أمين عام الجامعة العربية عن إدانته، مقابل تشجيع التطبيع والصمت على الغطرسة الصهيونية.
ليس من العسير القول إن ماكرون هو المأزوم، وليس الإسلام، وهذه الهجمة المتواصلة عليه أكبر دليل، فلا أحد يضرب في جسد ميت.
المأزوم هو ماكرون، وكذا دولته التي تبدو مثل عجوز تتغنى ببابها، وتتجاهل معطيات الواقع، وتحوّلات الزمن، ولا شك أن محاولاته لتجديد شبابها ستبوء بالفشل. بل إن أوروبا “القارة العجوز” تعيش ذات الأزمة أيضا.
يصل بنا ذلك كله إلى مسلسل الاستهداف الذي يتعرّض له المسلمون كما لم يحدث في أي مرحلة سابقة، والذي تشترك فيها القوى الأربع الكبرى (للمفارقة)، وهي أمريكا والصين وروسيا والهند.
كل هؤلاء يستهدفون الإسلام والرموز الإسلامية والأقليات الإسلامية، الأمر الذي يُواجَه بالصمت من قبل الأنظمة العربية والإسلامية أحيانا، وبالتشجيع أحيانا أخرى، كما يحدث فيما تفعل الصين مع “الإيغور”، وما يفعله بوتين في سوريا، وما يفعله المتطرف مودي ضد المسلمين في الهند، ولا تسأل قبل ذلك وبعده عن سائر المواقف التي تبناها ترامب ضد المسلمين داخل أمريكا، بجانب استفزازهم في قضية القدس والصراع مع الكيان الصهيوني، وهو ذاته لا يتوقف عن استخدام مصطلح “الإرهاب الإسلامي”.
بدأنا بماكرون لأنه الأسوأ في المرحلة الأخيرة، ولأنه يبحث عن دور، ليس بمنطق النفوذ، بل بمنطق الاستعمار القديم، وغطرسته التقليدية.
أما الآخرون، فيبني أكثرهم مواقفه بحسابات محلية، الأمر الذي لا يتوفر في حالة ماكرون، كما قلنا من قبل، لأن الأقلية المسلمة في فرنسا لا تمثل أي تهديد للدولة، كما أن تدخلاته الأخرى هي لون من السلوك المتغطرس، كما هو الحال في لبنان.
أيا يكن الأمر، فما يجري في كل الحالات التي تحدثنا عنها إنما يتعلق بحالة بؤس غير مسبوقة يعيشها الوضع العربي والإسلامي، وبخاصة الوضع العربي الذي تتصدره أنظمة “الثورة المضادة” التي تغري كل أولئك بمزيد من الاستخفاف بالمسلمين ومشاعرهم، لا سيما موقفها ما يسمى “الإسلام السياسي”، وحديثها السخيف عن “تجديد الدين”.
لم يحدث مثل ذلك منذ عقود طويلة، والسبب أن حجم التناقضات والصراعات في المنطقة، بين هوس “الثورة المضادة” من جهة، وهوس التمدد المذهبي الإيراني من جهة أخرى، ما زال يغري كل أولئك بالغطرسة، بل يضع الحبّ صافيا في طواحينهم، رغم ما بينهم من تناقضات.
هل سيستمر هذا الوضع طويلا؟
الحق أنه سيستمر ما تواصل الحريق الإقليمي الراهن، وإن كانت هناك فرصة لبعض التغيير إذا احتدم الصراع أكثر فأكثر بين القوى الأخرى، وصارت بعضها في حاجة إلى كسب المسلمين إلى جانبها، كما حدث إبان الحرب الباردة.
ويبقى أنه من دون حلٍّ إقليمي يوقف النزيف الراهن، فسيبقى الوضع سيئا على المسلمين في كل مكان، بما في ذلك أقلياتهم في العالم أجمع.
كل ذلك لا ينبغي أن يوقف نشاطات المسلمين الشعبية السلمية ضد كل أشكال استهدافهم، ويشمل ذلك مطاردة أحلامهم التي طرحوها خلال الربيع العربي، بجانب تضامنهم مع بعضهم البعض داخل العالم الإسلامي وخارجه، بما هو متاح، ولو بالكلمة، أو أي شكل من أشكال المساعدة الأخرى.
ولا شك أن فلسطين قد تكون قاعدة وحدة للمسلمين، بما هي عنوان لذلك، وقضية مركزية للأمة، إلى جانب دور الصهاينة المعروف في تصعيد التناقضات البينية في المنطقة.
* المصدر: عربي 21.