يُعرِّف علماء الاجتماع الانحراف الاجتماعي (social deviance) بأنه الخروج الصارخ والمتكرر على مسلمات المنظومة القيمية في مجتمع معين لفظاً أو فعلاً، ويتم قياس الانحراف من خلال ثلاثة مؤشرات، هي: درجة التكرار، وَحِدَّة الانحراف، وتنوع أشكاله.
وتتمثل إحدى أبرز مشكلات المجتمعات الاستيطانية (مثل “إسرائيل”، والولايات المتحدة، وجنوب أفريقيا في فترة التمييز العنصري.. إلخ) في أن تنوع البيئات الاجتماعية التي جاء منها المستوطنون يجعل المنظومة القيمية للمجتمع متضاربة، من حيث ترتيب وتركيب السلم القيمي بشكل عام، وتحديد القيمة العليا في هذه المنظومة بشكل خاص؛ فالمجتمع الإسرائيلي مثلاً تعود فيه أصول الشرائح الأكبر من المجتمع إلى خلفيات متنوعة تنتمي طبقاً للإحصاءات الرسمية “الإسرائيلية” إلى نحو 46 دولة موزعة في القارات الخمس.
منظومة القيم الدينية اليهودية القائمة على فكرة التفوق أحد مصادر الانحراف الاجتماعي والسياسي
طبقاً لعدد من الدراسات المتخصصة، يتبين أن المجتمعات الاستيطانية الإحلالية، التي قامت بتصفية أو تهجير أو تدمير أو تمزيق المجتمع الأصلي، تجعل من القوة القيمةَ العليا الجامعة، التي يشترك فيها أغلب أفراد المجتمعات الاستيطانية؛ على الرغم من التباين الحاد في خلفياتهم الاجتماعية والثقافية؛ إذ إن نشوء المجتمعات الاستيطانية تمّ بالقوة، ثم إن النجاح في ممارسة هذه القوة سواء ضدّ السكان المحليين أم ضدّ الطبيعة يعزز من مركزية فكرة القوة والعنف؛ فليست مصادفة أن الولايات المتحدة هي صاحبة أعلى معدل تدخل عسكري خارجي في العالم، أو أن أعنف أشكال التمييز العنصري سُجل في جنوب أفريقيا، أو أن «إسرائيل» هي أكثر دولة مخالفة لقرارات الأمم المتحدة، إذ إن مخالفاتها لقرارات مجلس حقوق الإنسان الأممي الذي تمّ إنشاؤه عام 2006م يفوق مجموع مخالفات دول العالم قاطبة.
ذلك يعني أن مصدر الانحراف الاجتماعي والسياسي في المجتمع «الإسرائيلي» ليس منفصلاً عن عوامل ثلاثة تمجد القوة والعنف، وتُشكل الخلفية الثقافية لكل شريحة من شرائح المجتمع «الإسرائيلي»:
1- طريقة تشَكُّل المجتمع الاستيطاني بالقوة، فـ»الإسرائيلي» تمرد على مجتمعه الأصلي الذي هاجر منه، واستخدم القوة للسيطرة على جغرافيا جديدة، ويمارس بقاءه من خلال دورات العنف مع السكان الأصليين وجيرانهم، وتعززت قيمة القوة لدى الفرد الصهيوني بنجاحه في بلوغ أغلب غاياته، وهو ما جعله يعتقد أن القوة بمضمونها العنيف هي الحل لكل المعضلات الاجتماعية والسياسية.
2- منظومة قيم دينية تقوم على فكرة محددة هي التفوق، استناداً لمنظومة معرفية ميتافيزيقية تجعله «الشعب المختار»، وتعطيه طبقاً لنصوصه الدينية الحق في السيطرة على الآخرين؛ وهو ما يعزز فكرة القوة لديه؛ لأنه يراها مبررة أخلاقياً؛ لأنها مسنودة بنص ديني، فمركزية يشوع (أو يوشع في الكتابات العربية) بن نون في الفكر الصهيوني اليهودي جاءت من أنه الأكثر تمجيداً وممارسة للقوة ضدّ الأغيار، وفي نصوص التوراة قسوة وتمجيد للقوة لا نظير له.
3- إرث غربي مبني في بعض أبعاده على مزاوجة بين قيم الصراع والقوة، ومعلوم أن أغلب القيادات الصهيونية نشأت في هذه البيئة الثقافية الغربية التي تمجد القوة من ناحية، وتعد الفكرة صحيحة بمقدار النفع المترتب عليها من ناحية أخرى، وهو جوهر البراجماتية.
يهود الاتحاد السوفييتي الأعلى بين شرائح المجتمع «الإسرائيلي» والأكبر في نسبة الجريمة
أولاً: مظاهر الانحراف الاجتماعي في المجتمع الاستعماري الاستيطاني “الإسرائيلي”:
نظراً لتباين الخلفيات المجتمعية والمنظومة القيمية للمجتمع الاستيطاني، بحكم تعدد أصولهم المجتمعية، فإن بعض مظاهر الانحراف تظهر في شرائح مجتمعية أكثر من غيرها، بينما تتقاطع مظاهر انحراف أخرى على الرغم من تباين الخلفيات المجتمعية، وهو ما يتضح على سبيل المثال في أن تدفق المهاجرين اليهود من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وبشكل رفع عدد سكان «إسرائيل» خلال الفترة من عام 1990 – 1993م بنسبة 20%، أدى إلى توترات عالية وانحرافات في العلاقة بين اليهود السوفييت واليهود الإثيوبيين، نظراً للتباين الحاد في الخلفيات الاجتماعية؛ فمثلاً تشير الدراسات الاجتماعية إلى أن اليهود المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق هم الأعلى بين شرائح المجتمع «الإسرائيلي» قياساً لنسبتهم السكانية في ثلاثة أبعاد، هي:
1- هم الأعلى في نسبة التسرب المدرسي، والأعلى عجزاً في التكيف مع النظام المدرسي.
2- هم الأعلى في نسبة الإدمان على الكحول، قياساً لنظرائهم في العمر من الشرائح الأخرى.
3- هم الأعلى في نسبة الجريمة التي يقترفونها، وبنسبة تفوق معدل نسبتهم في إجمالي السكان، كما سيتضح معنا في هذه الدراسة.
ويرى الباحثون «الإسرائيليون» أن المجتمع لا يتبنى نمط «الاندماج» للمهاجر الجديد، بل يتبنى نمط «الاستيعاب»، إذ تقوم الفلسفة السياسية الصهيونية في التعامل مع المهاجرين على أساس استيعاب هؤلاء المهاجرين لمقومات الهوية «الإسرائيلية»، وهي الدين اليهودي، واللغة العبرية، وتأدية الخدمة العسكرية (وأي خروج على هذه الأبعاد الثلاثة يعد نوعاً من الانحراف)، وتنفرد «إسرائيل» عن بقية مجتمعات العالم في أنها تفرض على اليهود استيعاب هذه المقومات.
ارتفاع نسب المنتحرين العسكريين بعد العمليات العسكرية قياساً بنظرائهم من الأعمار نفسها
ثانياً: أنماط الانحراف السائدة في المجتمع الاستيطاني “الإسرائيلي”:
1- جرائم القتل والسرقة والاعتداء على الممتلكات وغيرها:
ارتفع معدل جرائم القتل خلال الفترة من عام 2015 – 2018م من 1.4 لكل 100 ألف إلى 1.5، وتحتل «إسرائيل» المرتبة 149 من بين 230 كياناً سياسياً بالعالم في مستوى هذه الجرائم، مما يجعلها في موقع متوسط تقريباً، لكن التدقيق في البيانات الخاصة بعدد من تمّ إدخالهم إلى المستشفيات للعلاج من إصابات ناتجة عن جرائم عنف يتبين أن توزيع الضحايا لا يتناسب عرقياً مع نسبة العرق في إجمالي السكان إلى معدل الضحايا.
من جانب آخر، فإن القلق الذي ينتاب المجتمع بسبب تكرار الجرائم يوجِد بيئة مواتية لنشوء مجتمع عصابي (Neuroticism) يتسم في أحد أبعاده بالميل أكثر إلى تفسير المواقف البسيطة على أنها تهديدات، والإحباطات الطفيفة على أنها إحباطات عميقة ومعقدة، وتكشف استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي للفترة من عام 2017 – 2020م عن هذه الجوانب.
ويمكن الربط بين ارتفاع وتيرة القلق ومعدلات الانتحار؛ إذ تدل الدراسات “الإسرائيلية” والتقارير الرسمية التي تمّ تقديمها مؤخراً لوزارة الصحة عن حجم الانتحار، التي تتضمن معلومات عن عدد حالات الانتحار ونسبتها في الفترة الممتدة من عام 2000 – 2016م على النتائج التالية:
أ- معدل الانتحار السنوي بين 385 – 390 حالة.
ب- أعلى نسبة انتحار بين الجنسين وقعت لمن هم في سن 75 وما فوق.
جـ- معدل الانتحار لليهود في “إسرائيل” أعلى بـ2.4 مرة من متوسط معدل الانتحار بين الفلسطينيين من أهالي 1948م.
ويربط بعض الباحثين بين مستويات الانتحار في المجتمع وتوتر البيئة السياسية في “إسرائيل”، فمثلاً؛ تشير دراسة “إسرائيلية” إلى أن معدل الانتحار يتزايد في كل مرة في العام الذي يلي وقوع حرب بين “إسرائيل” والدول العربية، وقد طبق باحث “إسرائيلي” هذه القاعدة على “إسرائيل” في جميع حروبها خلال الفترة من عام 1948 – 2007م، ووجد أنها صحيحة في كل الفترات، وهو ما يعني أن الحرب تقود بعد نهايتها إلى توترات عالية في الشعور الجمعي.
ولوحظ ارتفاع نسب المنتحرين من العسكريين قياساً بنظرائهم من الأعمار نفسها من الذين لا ينخرطون في الجيش، وترتفع النسبة بعد العمليات العسكرية، وهو ما كان ملاحظاً بشكل واضح بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية؛ وهو ما يعني عدم اتساق معرفي لدى العسكري الذي تغذى على قيم القوة من ناحية، لكنه يعيش حالة توتر دائمة من ناحية أخرى، وهو الوضع نفسه للجنود الأمريكيين بعد حرب فيتنام، وبعد الحرب العراقية عام 2003م.
«إسرائيل» تحتل المرتبة الـ20 عالمياً في الدخل من تجارة الجنس وزاد التحرش بنسبة 13%
2- الانحراف الجنسي (تجارة الجنس):
يتمثل الانحراف الجنسي في بُعدين؛ هما العبودية الجنسية (تأجيراً أو بيعاً) من ناحية، وتهريب البشر من خلال الخطف أو التضليل لأغراض العبودية الجنسية من ناحية أخرى.
ورغم أن «إسرائيل» تحتل المرتبة المائة بين الدول طبقاً لعدد السكان، فإنها تحتل المرتبة 20 عالمياً في الدخل من تجارة الجنس، حيث وصل دخل تجارة الجنس في عام 2016م إلى نحو 318 مليون دولار سنوياً، بينما قدرت مصادر أخرى الدخل بنحو 500 مليون دولار، ويعمل في القطاع ما بين 12 ألفاً إلى أكثر من 17 ألف فرد، وأن 71% منهم لجؤوا إلى هذه المهنة بسبب الظروف الاقتصادية.
وتشكل الجمهوريات السوفييتية السابقة المصدر الرئيس لتهريب النساء إلى «إسرائيل» لأغراض الجنس، ووصل المعدل إلى ما بين 3 آلاف إلى 5 آلاف سنوياً، وهو ما يقارب من 40 – 50% من مجموع العاملين في تجارة الجنس، حسب التقارير الرسمية «الإسرائيلية» لعام 2016م.
وطبقاً للتصنيفات الدولية، يتم تقسيم العالم إلى ثلاثة مستويات أو إطارات (Tiers) حسب حدة التجارة الجنسية، وكانت “إسرائيل” مصنفة ضمن الإطار أو الحزام الثالث حتى عام 2001م، إلا أنها انتقلت إلى الحزام الثاني عام 2009م، ثم إلى الحزام الأول عام 2011م، كما أن “الكنيست” أقر عام 2018م قانوناً بتأييد 34 عضواً دون اعتراض أي عضو يمنع الاشتغال بتجارة الجنس، لكنه يُجَرِّم الزبائن ولا يجرم بائعة الهوى، رغم ذلك فإن المراجع المتخصصة تشير إلى أن 10 آلاف “إسرائيلي” يذهبون لدور الدعارة شهرياً.
واللافت للنظر في هذه الظاهرة بالمجتمع، هو تزايدها من ناحية، وتنامي العنف في الحصول عليها من ناحية أخرى، فطبقاً للتقارير الأمنية لعامي 2013 و2014م، فإن معدل الشكاوى التي تصل للمراكز الأمنية بخصوص الاعتداءات الجنسية على النحو التالي:
أ- يصل عدد الشكاوى التي تتلقاها كافة الجهات المختصة بالاغتصاب إلى 40 ألف شكوى سنوياً، يصل منها 15% للأجهزة الأمنية.
ب- معدل التزايد السنوي في عمليات الاغتصاب يصل إلى 12%.
جـ- 64% من المشتكين هم من أعمار ما بين 12 – 18 عاماً.
د- وقوع 957 حالة اعتداء جنسي بين العسكريين، أكثر من نصفها خلال أداء الواجب العسكري.
هـ- 4 من كل 5 شباب تعرضوا بشكل أو آخر للعنف الجنسي.
كما تزايد معدل العنف الجنسي بنسبة الضعف خلال عام 2020 مقارنة بعام 2019م.
وقد لوحظ في الفترات الأخيرة أن عمليات الاغتصاب المنظمة أو العنف الجنسي ضدّ النساء التي تديرها عصابات إجرامية، أخذت طابعاً عنيفاً بشكل كبير؛ وهو ما أدى لوقوع المظاهرات ومشاركة أكثر من 30 هيئة رسمية وخاصة في عدد من المدن من بينها تل أبيب وحيفا وبئر السبع وغيرها.
ووفقاً لتقرير “الاعتداءات الجنسية ضدّ النساء” المقدم إلى لجنة “الكنيست” حول وضع المرأة والمساواة بين الجنسين، فتحت الشرطة 6123 قضية جرائم جنسية عام 2017م، بزيادة 7% عن عام 2016م، وزادت حالات التحرش الجنسي بنسبة 13%، ومن بين النساء اللواتي تعرضن للتحرش، كانت أعمار الثلثين بين 20 و34 عاماً، 22% بين 12 و18، و11% من الأطفال.
ووفقاً لمسح الأمن الشخصي الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء (CBS)، فإن 3% فقط من الضحايا أبلغوا الشرطة عن إساءة معاملتهن، ويقدر مكتب الإحصاء المركزي أن 121500 حادث اعتداء جنسي وقع عام 2017م، وهو ما يعزز تزايد هذه الظاهرة بشكل واضح خلال الأعوام الخمسة الأخيرة.
وقد أثارت الحركة النسوية “الإسرائيلية” مشكلة العلاقة بين الأمن القومي، والأمن الفردي، خصوصاً العنف الذي تتعرض له المرأة من جانب النوع الاجتماعي أو الجندر (Gender)، ومن جانب الاعتداء الجنسي عليها، أو من زاوية المكانة التي تحظى بها المرأة في صفوف الجيش في الترقية أو الالتحاق ببعض الوحدات.
مستوطنو حدود غزة الأعلى في إدمان المخدرات بسبب حالة الاضطراب النفسي التي يعيشونها
3- المخدرات:
تحتل «إسرائيل» المرتبة 136 من بين 183 دولة من حيث نسبة الوفيات الناتجة عن تعاطي المخدرات، وتصل نسبة الوفيات لكل 100 ألف نسمة إلى 0.67 وفاة.
وتشير تقارير صحفية «إسرائيلية» إلى أن المستوطنين سالأقرب لحدود قطاع غزة هم الأعلى في الإدمان على المخدرات، بسبب حالة الاضطراب النفسي التي يعيشونها، وأن هذه النسبة تشهد تزايداً واضحاً.
وأفاد مسح وبائي في «إسرائيل» بين البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و65 عاماً إلى أن 27% من السكان استخدموا القنب، و2% مخدرات أخرى غير مشروعة، مع 0.25% أبلغوا عن استخدام الهيروين خلال هذه الفترة.
وتدل الدراسات على أن ظاهرة تعاطي المخدرات في المجتمع تزايدت منذ عام 1967 إلى عام 1980م بمعدل يصل إلى نحو 26%، وبلغت عام 1980م نحو 7200 مدمن، وارتفع العدد إلى نحو 300 ألف يتعاطون المخدرات في المناسبات، أو بشكل دائم عام 2018م؛ مما يكشف عن تزايد واضح ومتسارع.
4- الفساد:
تشير تقارير الشفافية الدولية إلى أن معدل الفساد السياسي والاقتصادي في «إسرائيل» يتزايد خصوصاً في السنوات الأخيرة، فقد تراجعت مرتبة «إسرائيل» في مستوى الشفافية من المرتبة 28 عام 2016، إلى المرتبة 32 عام 2017، ثم المرتبة 35 عام 2019، وكان معدل الشفافية عام 2016 هو 64 نقطة ثم تراجع إلى 60 عام 2019م.
لكن الظاهرة التي تستحق العناية هي تزايد عدد الشخصيات في المناصب السياسية العليا الذين تمّ الحكم عليهم بالفساد خلال الفترة من عام 2000 – 2020م.
________________________________________________________________
(*) المقال مأخوذ باختصار من ورقة علمية منشورة بمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات بعنوان «الترابط بين الانحراف الاجتماعي والعنف السياسي في مجتمعات الاستعمار الاستيطاني.. «إسرائيل» نموذجاً.