العلماء ملوك القلوب، وهيبتهم في النفوس راسخة، ألقاها الله عليهم لما بذلوه من تنويرٍ وتبصيرٍ وتعليمٍ للخلْق، وللخشية التي امتلأت بها قلوبهم من الله تعالى.
لكن الحكام لا يريدون أن يشاركهم أحد عند العامة؛ لأنه إن شاركهم أحد عند العامة كانت سلطتهم منقوصة؛ فهم يريدون أن يكون الأمر أمرهم والرأي رأيهم، لكن أن يرى غيرهم رأياً غير رأيهم ويحرِّض العامة عليهم، أو على الأقل يرى العامة اعتراضه فيستنُّون بسُنته، فهذا مدعاة لخوفهم على مُلكهم وسلطانهم.
ولقد تفنن أهل الحكم والنفوذ في إنزال العقوبات بمخالفيهم من العلماء؛ لكسر نفوسهم، ولردهم عن آرائهم ومواقفهم التي يخالفون فيها الحكام، التي قد تكون سبباً في تأليب الرأي العام عليهم، أو إيجاد بؤر معارضة هم في غنى عنها.
وهذه العقوبات تتفاوت في درجاتها؛ فمنها ما هو شديد قاس قد يصل إلى حد إتلاف الأجساد وإزهاق الأرواح، ومنها ما هو دون ذلك، وإن كان داخلاً في حد التضييق أو الإقصاء أو التهميش.
ومقدار العقوبة يتوقف على تقديرهم لحجم المخالفة التي يرون العلماء خالفوهم فيها.
وقد أسميناها عقوبة، وإن كانت العقوبة إنما تكون على جرم قد اقترفه صاحبه؛ لأنها في نظر الحكام أو غيرهم جرم، قد يصل لحد الجرم الذي لا يغتفر، فيُنزِل على إثره أشد العقوبة على صاحبه، أو يكتفي بما دون ذلك حسبما يتراءى له، أو بما يشير عليه مستشاروه.
وقد تكون عقوبة شديدة قاسية غير مناسبة مع موقف بعض العلماء، ولكن الحاكم ينزلها بهم ليكونوا عبرة لغيرهم، فلا يجرؤ أحد على حذو حذوهم.
وقد تكون عقوبة على غير جرم مقترَف، بل يقع عليهم لافتراء مفترى، أو لخوفه من رد فعل قد يقومون به على شيء ينوي أصحاب السلطان والشأن القيام به.
فتكون العقوبة احترازاً من الوقوع في أمر يخشونه ويخافونه.
عقوبة التشهير بالعلماء استُخدمت باكراً في الدولة الإسلامية من عمَّال بني أمية ضد المخالفين لهم
الأمويون وابن المسيب
وفيما يلي سوف نلقي الضوء على صورة من صور العقوبات المتخذة ضد أهل العلم والفكر والثقافة، وهي التشهير.
ويستخدم الحكَّام عقوبة التشهير لكسر هيبة العالم في القلوب، وليكون عبرة لغيره، فإذا كان الحكَّام قد فعلوا ذلك بالسادة الكبار فماذا سيكون مصير سائر العوام إن سلكوا نفس الدرب، وانتهجوا نفس النهج.
وقد استُخدمت هذه العقوبة باكراً في الدولة الإسلامية؛ إذ استخدمها عمَّال بني أمية ضد المخالفين لهم.
وممن استُخدمت ضده تلك العقوبة سعيد بن المسيب، هذا التابعي الكبير، والسبب كما قال الواقدي: إن عبدالعزيز بن مروان توفي بمصر سنة أربع وثمانين للهجرة، فعقد عبدالملك لابنيه الوليد، وسليمان، بالعهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعامله يومئذ على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة، فبايعوا، وأبى سعيد بن المسيب أن يبايع لهما، وقال: حتى أنظر، فضربه هشام ستين سوطاً، وطاف به في تُبَّان(1) من شَعْر، حتى بلغ به رأس الثنية(2)، فلما كرُّوا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن.
فقال: والله لولا أني ظننته الصلب، ما لبست هذا التُّبَّان أبداً.
فردوه إلى السجن، فحبسه وكتب إلى عبدالملك يخبره بخلافه.
فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به ويقول: سعيد، كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده خلاف.
ودخل قبيصة بن ذؤيب على عبدالملك بكتاب هشام بن إسماعيل يذكر أنه ضرب سعيداً وطاف به.
قال قبيصة: يا أمير المؤمنين، يفتات عليك هشام بمثل هذا، والله لا يكون سعيد أبداً أمحل ولا ألج منه حين يضرب، لو لم يبايع سعيد ما كان يكون منه، وما هو ممن يخاف فتقه، يا أمير المؤمنين اكتب إليه.
فقال عبدالملك: اكتب أنت إليه عني تخبره برأيي فيه، وما خالفني من ضرب هشام إياه.
فكتب قبيصة بذلك إلى سعيد.
فقال سعيد حين قرأ الكتاب: الله بيني وبين من ظلمني.
وقال عبدالله بن يزيد الهذلي: دخلت على سعيد بن المسيب السجن، فإذا هو قد ذبحت له شاة، فجعل الإهاب على ظهره، ثم جعلوا له بعد ذلك قضباً رطباً، وكان كلما نظر إلى عضديه قال: اللهم انصرني من هشام.
وقال عمران بن عبدالله الخزاعي: دعي سعيد بن المسيب للوليد، وسليمان، بعد أبيهما فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار.
فقيل: ادخل واخرج من الباب الآخر.
قال: والله لا يقتدي بي أحد من الناس.
قال: فجلده مائة وألبسه المسوح.
وقال عبدالرحمن بن عبدالقاري لسعيد بن المسيب حين قامت البيعة للوليد، وسليمان، بالمدينة: إني مشير عليك بخصال، قال: ما هن؟ قال: تعتزل مقامك؛ فإنك تقوم حيث يراك هشام بن إسماعيل، قال: ما كنت لأغير مقاماً قمته منذ أربعين سنة، قال: تخرج معتمراً.
قال: ما كنت لأنفق مالي وأجهد بدني في شيء ليس لي فيه نية، قال: فما الثالثة؟ قال: تبايع، قال: أرأيت إن كان الله أعمى قلبك كما أعمى بصرك فما عليَّ؟
فدعاه هشام بن إسماعيل إلى البيعة، فأبى، فكتب فيه إلى عبدالملك.
فكتب إليه عبدالملك: ما لك ولسعيد؟ ما كان علينا منه شيء نكرهه، فأما إذ فعلت فاضربه ثلاثين سوطاً وألبسه تبان شعر، وأوقفه للناس لئلا يقتدي به الناس(3).
فهذا العامل لبني أمية كان أشد على الناس من أصحاب الأمر، وكما نقول الآن: كان ملكياً أكثر من الملك.
وما حدث مع سعيد بن المسيب في عصر بني أمية حصل مع أبي حنيفة في عصر بني العباس، قال المتوكل بن شداد: «لما أبى الإمام القضاء كان يخرج كل يوم فيُنادى عليه، ويجتمع الناس حتى ضُرب مائة وعشرين سوطاً في اثني عشر يوماً، وطيف به في السوق»(4).
وابن قيم الجوزية بسبب نصرته لشيخه ابن تيمية ناله هذا الأذى، قال ابن حجر: «كان له حظ عند الأمراء المصريين، واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروباً بالدِّرة، فلما مات أفرج عنه»(5).
في العصر الحديث الإعلام هو الوسيلة المثلى للتشهير بالعلماء وبث الشائعات عنهم وتصيُّد الأخطاء لهم
التشهير الإعلامي
وفي العصر الحديث، أصبح الإعلام هو الوسيلة المثلى للتشهير بالعلماء، حيث يتم تشويه صورتهم، وبث الشائعات عنهم، وتصيُّد الأخطاء لهم ولذويهم.
وينجر الأمر على العاملين للإسلام على الساحة؛ فكل من ينادي بالإسلام منهجاً للحياة فهو رجعي وظلامي ومتخلف، وراحوا يشيطنونهم، وأخذوا يبثون ذلك في الصحافة والكتب والدوريات والإذاعات والأفلام والمسلسلات، وأصبح الأصل التهكم من أهل الدين واللغة في الأعمال الفنية؛ وذلك لتشويههم، ولتحطيم رمزيتهم في العقول والقلوب.
وقد جنت الأمة من ثمار هذا الإعلام الموجَّه الحنظل؛ قال أبو الحسن الندوي، رحمه الله: «إن من أعظم أسباب النكبة التي نكبت بها مصر، وامتدت هذه النكبة إلى جميع البلاد العربية: الصحافة والإذاعة المصريتان؛ فقد مارستا دوراً في إفساد الذوق، وشل النظام الفكري، وتخدير الأعصاب، وتعمية الأبصار عن إدراك الحقائق، ونشر المجون، والعبث بالقيم والموازين، وأصول الأخلاق والشرائع.
من أمثلة اضطهاد العلماء حديثاً ما يقوم به الإعلام ضد الداعية الهندي د. ذاكر نايك
وإن كل شعب يعيش تحت وطأة هاتين السلطتين اللتين تستحق كل واحدة منهما أن تسمى «صاحبة الجلالة»، ويهبها قلبه وعقله وسمعه وبصره، لا بد أن يفقد الاتزان، ويخل الميزان، فلا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، ولا يحب طيباً، ولا يعاف خبيثاً، وإنه عرضة لكل خطر، وهدف لكل إهانة، وجدير بكل هزيمة»(6).
ومن أمثلة اضطهاد الإعلام لبعض العلماء ما يقوم به الإعلام الهندي ضد د. ذاكر عبدالكريم نايك، خليفة الشيخ أحمد ديدات، رحمه الله؛ حيث تتهمه بأنه يشوِّه سمعة الأديان الأخرى، وأنه يسب أديان غير المسلمين، وقد قامت السلطات الهندية بإبطال جواز سفره، وطلبت من الشرطة الدولية وضعه ضمن النشرة الحمراء.
وهو خارج بلده منذ عام 2016م وتنقل بين البلدان، وحط رحاله بماليزيا، لكن المشكلات ما زالت تطارده، والتربص به وبتصريحاته ومهاجمته بها على أشده.
_________________________________________________________________________________
(1) «التُّبَّانُ: هُوَ سَرَاوِيلُ صَغِيرٌ مِقْدَارُ شِبْرٍ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ يَكُونُ مَعَ الْمَلَّاحِينَ» [المُغرب في ترتيب المُعرِب، (1/101)].
(2) «الثَّنِيَّةُ: أعْلى مَسِيْلٍ في رَأْسِ جَبَلٍ يُرى من بَعِيْدٍ فيُعْرَف، وهي العَقَبَةُ أيضاً، وجَمْعُها ثَنَايَا» [المحيط في اللغة، (10/180)].
(3) سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/230- 231) باختصار وتصرف.
(4) مناقب الإمام الأعظم، للكردري، 2/20.
(5) الدرر الكامنة، لابن حجر، 5/138.
(6) المسلمون وقضية فلسطين، للندوي، ص 163-164.