يعد يوم السبت 28 فبراير الماضي يوما فاصلا في مسار الربيع العربي، خاصة في تونس، من خلال ما شهدته شوارع عاصمتها في هذا اليوم من تحركات شعبية، تذكّر -إلى حدّ كبير- بما حصل في أواخر عهد نظام بن علي، وكأن تونس -البلد الذي انطلقت منه شرارة التغيير الشعبي السّلمي- أبتْ بعد عشرية من التدافع السياسي في ظل وضع إقليمي معقّد، إلا أن تُثبِت للعالم أن هذا المسار لا يمكن التراجع عنه مهما كانت التحديات، وأن قطار التغيير في العالم العربي قد انطلق في اتجاه تحقيق العدل والكرامة ولا يمكنه أن يتوقف عند مرحلة التأسيس.
تثبيت قيمة الحرية
وقد نقلت وسائل الإعلام المحلية والدولية صورا ومشاهد لمسيرتين في تونس يوم السبت 28 فبراير؛ الأولى لحزب العمال الشيوعي والثانية لحزب النهضة ذي التوجه الإسلامي. وهذا المشهد يترجم في حد ذاته جوهر الربيع العربي الذي أراد أن يقطع مع العقلية الأحادية؛ فأن يتظاهر حزبان يتناقضان أيديولوجيا وحجما وموقعا وتأثيرا بشكل سلمي وفي نفس التوقيت وفي حيز مكاني متقارب، هو انتصار للتعددية السياسية والحزبية.
يحمل هذا التدافع بعدا إيجابيا وهو تثبيت قيمة جوهرية وهي حرية التعبير في ظل الاختلاف والتنوع
لكن بعض الملاحظين يرون أن تواجد مسيرتين ترفعان شعارات متناقضة عنوانٌ للانسداد السياسي ومؤشرٌ على فشل تجربة الانتقال الديمقراطي ومسار الربيع العربي عموما (باعتبار أن تونس بقيت التجربة الوحيدة التي صمدت إلى حدّ في وجه التحديات الداخلية والخارجية).
ولكن هذا التدافع على عمقه، فإنه يحمل من جانب آخر بعدا إيجابيا وهو تثبيت قيمة جوهرية وهي حرية التعبير في ظل الاختلاف والتنوع.. فهذا الحزب الشيوعي العلماني متواجد ويتحرك بحرية وشعاره المطرقة والمنجل رمزا الأيديولوجية الشيوعية والماركسية، مقابل حزب ذي توجه إسلامي شعاره الحمامة رمز الحرية. وقد اكتسب خبرة سياسية أهّلته إلى مواقع قيادية على غرار الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا.
“بعبع” الإسلام السياسي
والمتأمل في الأحداث التي تعيشها تونس منذ عشرة أعوام تقريبا يستنتج أنها أحداث طبيعية في منطق الثورات والتحولات السياسية السريعة؛ فثقافة التعايش السّلمي بين مختلف مكوّنات المجتمع السياسي في البلاد العربية لم تكتمل بعد، وتحتاج إلى زمن أطول لكي تصبح واقعا عمليا ومتعارفا عليه؛ إذ ما تزال بقايا نزعة الإقصاء للمخالف أيديولوجيا وسياسيا قائمة.
والدليل أن حزب العمال الشيوعي المعارض والمنظم لإحدى المسيرتين في تونس يوم السبت 28 فبراير كان شعاره إسقاط النظام، وكان من بيت اللافتات التي رفعها “مشروع الإخوان محطم للأوطان”. وهو يعلم جيدا أن حزب النهضة ذا التوجه الإسلامي نال ثقة الناخبين على سلّم الأحزاب السياسية في الانتخابات التشريعية، وأن خطابه وسطي ومنفتح على كل المكونات السياسية والمجتمعية التي تحترم مبادئ الثورة، وأنه حصل على رئاسة البرلمان متمثلة في شخص رئيسه الأستاذ راشد الغنوشي، ولم يفرض نفسه على المشهد السياسي، بل جاء تجسيدا لإرادة نسبة مهمة من الشعب التونسي. ولكن الخلاف الأيديولوجي والسياسي بين النهضة وخصومها ومن بينهم اليسار الشيوعي حوّل الخصومة إلى عداوة شرسة وسعي حثيث في اتجاه الإقصاء والإطاحة بهذا المكون الأساسي في المشهد السياسي التونسي.
بعض القوى الخارجية غير الراضية على مسار الربيع العربي تستغل الثغرات لإشعال نار الفتنة وتعميق الشرخ الأيديولوجي
والإشكال أن بعض القوى الخارجية غير الراضية على مسار الربيع العربي واستعادة الشعوب لإرادتها وحقها في تقرير مصيرها، تستغل هذه الثغرات لإشعال نار الفتنة وتعميق الشرخ الأيديولوجي من أجل ضرب الوحدة الوطنية وتقويض مشروع الانتقال الديمقراطي.
ولهذا يكمن جوهر الصراعات والتجاذبات السياسية الحادة في تونس اليوم في رفض أطراف داخلية وخارجية وأحزاب ذات توجه علماني بروز أحزاب ذات توجه إسلامي في المشهد السياسي، والعمل بكل جهد من أجل إقصائها رغم فوزها بأعلى النتائج في أهم المحطات الانتخابية. والحجة في ذلك أنها أحزاب “ظلامية ورجعية وفاشلة لأنها توظف الدين من أجل مصالح سياسية”. ومثل هذه الأحكام والنعوت تذكّر بخطاب الأحزاب والتيارات اليسارية واليمينية في السبعينات والتي لم تتطور في نظرتها لمسار تاريخ الشعوب وتاريخ الفكر البشري، ولم تقتنع بعد بأن العالم يتغير، وأن المسلمين عادوا إلى ساحة الفعل الحضاري في العالم متشبّعين بقيم الإسلام القائمة على الرحمة والعدالة واحترام الكرامة الإنسانية؛ بل أبعد من ذلك احترام كل الكائنات والمخلوقات، وتسخير مقدّرات هذا الكون لخدمة الإنسان وبيئته.
رسائل للداخل والخارج
لقد جسّدت مسيرة حزب “النهضة” يوم السبت 28 فبراير شكلا ومضمونا مظهرا من مظاهر بداية الوعي السياسي الشعبي بضرورة التفكير في المصير المشترك فوق المصالح الحزبية والاعتبارات السياسية؛ حيث كان العلَم التونسي هو العلامة البارزة في هذه المسيرة التي كان شعارها “الثبات والدفاع عن المؤسسات” ومساندة الشرعية. وشدّد خطاب المتدخلين على وحدة المصير ومصلحة البلاد والعباد واحترام المؤسسات. وجاء على لسان الغنوشي في الخطاب الذي وجهه لجمهور مسيرة “النهضة” أن الشعب التونسي “يريد حرية وديمقراطية ولا يريد فوضى وشعبوية”؛ ذلك أن هذه الشعبوية هي العائق الكبير أمام تقدّم تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس.
ركّز بعض الملاحظين على اعتبارات حزبية وتنظيمية وراء تنظيم المسيرة وتحشيد الأنصار والاستقواء بالشارع
وقد ركّز بعض الملاحظين على اعتبارات حزبية وتنظيمية وراء تنظيم هذه المسيرة، وتحشيد الأنصار و”الاستقواء بالشارع”، ومن بين هذه الاعتبارات رصّ الصفوف الداخلية لحزب النهضة بعد حصول بعض التجاذبات في صفوفه القيادية، والحديث عن تراجع شعبيته، لكن الأمر أبعد من ذلك؛ فهناك رسائل إلى الفاعلين السياسيين قيادة وأحزابا للتذكير بالحجم الحقيقي لحزب النهضة في المشهد السياسي التونسي وما يقتضيه من احترام لهذا المعطى في الموازنات والقرارات السياسية، وعلى رأسها الكف عن الدعوة لحل البرلمان أو سحب الثقة من رئيسه الأستاذ راشد الغنّوشي بحجة تعطل مهمّته في ظل التجاذبات السياسية بين مختلف الأطياف داخله. ورسالة أخرى تدعو إلى الإسراع بالقيام بحوار وطني حقيقي لا إقصاء فيه لأي طرف في ظل أزمة سياسية عميقة بين رأسي السلطة التّنفيذية (الرئيس قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي)، علاوة على الرسائل الموجّهة إلى الخارج والتي من أهمّها أن قطار الربيع العربي يواصل شق طريقه الطويل رغم كل التحديات، وأن إرادة الشعوب لا تُقهر، ومن حقها أن تختار ما تراه مناسبًا لها. ولعل لسان حال منظمي المسيرة يقول إن تونس بلد الشرارة الأولى للربيع العربي هي أيضا بلد الشاعر أبي القاسم الشابي المعروف بقصيدته التي ذاعت كلماتها في أنحاء العالم وفي مطلعها:
إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد للّيل أن ينجلي *** ولا بد للقيد أن ينكسر
إذ لا يمكن إطفاء هذه الشرارة أو طمس نورها، بل إن المسيرة الشعبية الضخمة (ربع مليون متظاهر رجالا ونساء وأطفالا بمشاركة كل الأجيال) جاءت لتضخ دماء جديدة في الربيع العربي بعد أن شهد تعثرات ونكسات عديدة، وتدفع مساره إلى الأمام من أجل تحقيق قيم الحرية والكرامة.
مشاركة نسائية واسعة بالمسيرة