المتتبع لسيرة سلفنا الصالح يجد تراثًا زاخرًا لقضية محاسبة النفس، مما يدل على خطورة المكانة التي احتلتها هذه القضية في أفهامهم وأعمالهم.
يقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية”.
ويحذّر ابـن الـقـيـم (رحمـه الله) من إهمال محاسبة النفس فيقول: “أضرّ ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسـتـرسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها (..) ومن تأمل أحوال الصحابة (رضي الله عنهم) وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جميعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن” (1).
إنـا لنفـرح بالأيام نقطـعـها *** وكل يوم مضى يدني من الأجـل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخسران في العمل
كيف تُحاسب نفسك؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نقف عنده طويلًا؛ لأن الكيفية هي الشيء المهم الذي – للأسف – يسقط من حساباتنا، ولا نخصه بمزيد من الدراسات مع أنه هو الجزء العملي في أي أمر حياتي.
وأحب أن أذكر هنا عشر طرق لمحاسبة النفس، يمكن لأي فرد أن يختار الطريقة التي تناسبة وتؤثر فيه، كما يمكنه أن يعدد بين هذه الوسائل جميعها، أو يختار طريقة أخرى ويضيفها إلى هذه الطرق لتعم الفائدة ويكثر النفع إن شاء الله.
ومن هذه الطرق:
1 – طريقة الإمام ابن القيم: البدء بالأولويات:
ذكر الإمام ابن قيم الجوزية في إغاثة اللهفان أن أساسيات محاسبة النفس تكون كالتالي:
أولًا- البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصًا تداركه.
ثانيًا – التثنية بالمناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
ثالثًا – محاسبة النفس على الغفلة، وتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله.
رابعًا – محاسبة النفس على حركات الجوارح؛ كلام اللسان، ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟
2 – طريقة توبة بن الصمة: حساب السنين والأيام:
نُقل عن توبة بن الصّمة أنه جلس يومًا ليحاسب نفسَه فعدّ عُمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفًا وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!! ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلًا يقول: “يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى”.
يقول الغزالي معلّقًا على هذه القصّة: “فهكذا ينبغي أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجرًا في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه ذلك: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (المجادلة: 6) (2).
ويتمثل خويل بن محمد –من التابعين- نفسه وقد وقفتْ للحساب، فقيل له: يا خويل بن محمد! قد عمّرناك ستين سنة فما صنعت فيها؟
قال: فجمعت نوم ستين سنة مع قائلة النهار، وإذا قطعة من عمري نوم، وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل، ثم جمعت ساعات وضوئي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت فيها، ثم نظرت في صلاتي فإذا صلاة منقوصة وصومٌ منخرق، فما هو إلا عفو الله أو الهلكة” (3).
3 – طريقة الأحنف بن قيس: مسّ النار:
حكى صاحب للأحنف بن قيس قال: “كنتُ أصحبُه فكان عامة صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟”. فإذا كان الإنسان لا يقدر على لسعة نار الدنيا فكيف بأهوال ونار الآخرة؟ (4).
4 – طريقة حسان بن أبي سنان: العقوبة الفورية:
يُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال: “متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عمّا لا يَعْنيكِ؟! لأعاقبنّك بصيام سنة، فصامها” (5).
5 – طريقة عبد الله بن قيس: تذكُّر أيام النكوص والغفلة:
قال عبد الله بن قيس: “كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه ويقول: أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُك ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُكِ ورجعت! واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ. فقلت: لأرمقنّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل؛ فواللهِ ما زال ذلك به حتى رأيتُه صريعًا، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة” (6).
6 – طريقة عون بن عبد الله: عتاب النفس بالعقل والمنطق:
كان عون بن عبد الله، صاحب قلب يفيض خوفًا وإشفاقًا وإجلالًا، وكان (رحمه الله) يحاسب نفسه عن طريق معاتبتها بالعقل والمنطق، فكان يقول في بكائه وذكر خطيئته:
“ويح نفسي! بأي شيء لم أعص ربي؟ ويحي! إنما عصيته بنعمته عندي، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي! ويحي كيف أنسى الموت ولا ينساني؟! ويحي إن حُجبت يوم القيامة عن ربي! ويحي كيف أغفل ولا يغفل عني؟! أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟! أم كيف لا تطول حسرتي ولا أدري ما يفعل بي؟! أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري، أم كيف أجمع بها وفي غيرها قراري؟! أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني؟! أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟! أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي؟!(7).
7 – طريقة عمر بن الخطاب: المكاشفة الصادقة:
قال أنس بن مالك: “دخل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حائطًا فسمعته يقول -وبيني وبينه جدار-: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ! والله لتتقينَّ الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنّك”(8).
ومعنى ذلك أن يكون الإنسان صادقًا في محاسبته لنفسه. وتعتمد المحاسبة الصادقة على عمق المكاشفة وجديتها وصدقها؛ يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): المحاسبة الصادقة تقوم على ثلاثة أسس:
الاستنارة بنور الحكمة، وسوء الظنّ بالنفس، وتمييز النعمة من الفتنة.
فأمّا نور الحكمة؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل، وكلّما كان حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ.
وأما سوء الظن بالنفس؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب.
وأما تمييز النّعمة من الفتنة؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر، مفتونٍ بثناء الجهّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه!(9).
8 – طريقة الربيع بن خثيم: تجربة دخول القبر:
يُروى عن الربيع بن خثيم (رحمه الله) أنه حفر في بيته حفرةً؛ فكان إذا وجد في قلبه قساوةً دخل فيها؛ ويغلق على نفسه بابها، وكان يمثل نفسه أنه قد مات وندم وسأل الرجعة فيقول: “ربِّ ارجعون. لعلي أعملُ صالحًا فيما تركت”.
ثم يجيب نفسه فيقول: قد رجعت يا ربيع!! فانظر ماذا تصنع؟ فيُرى فيه ذلك أيامًا، أي يُرى فيه العبادةُ والاجتهادُ والخوفُ والوجلُ” (10).
وهذا الأمر يمكن أن يطبق بزيارة المقابر، ولو كل شهر مرة، والدخول في حفرة مثل الحفر التي يوضع فيه الأموات، ويتساءل المرء: ماذا لو كانت هذه هي نهايته؟
والله لو عاش الفتى من عمره *** ألفًا من الأعوام مالـك أمـره
متنعمًا فيها بكـل نفيســـة *** متنعما فيها بنعمـى عصــره
لا يعتريه الهم طـول حياتـه *** أبدا ولا تجري الهمـوم ببالـه
ما كـان ذلك كله في أن يفي *** بمبيت أول ليلـة فـي قبــره
9 – طريقة عمر بن عبد العزيز: الشعور بثقل المسئولية:
تتحدث فاطمة بنت عبد الملك – زوجة عمر بن عبد العزيز (t) – أنه كان إذا أمسى قام فصلى ركعتين، ثم وضع رأسه على يده، تسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة، فأقول: قد خرجتْ نفسه، وانصدعت كبدُه. فلم يزل كذلك ليلته، حتى برق له الصبح، ثم أصبح صائمًا. قالت: فدنوتُ منه وسألته عن ذلك، فقال: دعيني وشأني وعليك بشأنك.
قالت له: إني أرجو أن أتعظ، قال: إذًا أخبركِ، إني نظرتُ إليَّ، فوجدتُني قد وُلِّيتُ أمر هذه الأمة، صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها، ثم ذكرتُ الغريب الضايع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم، في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمتُ أن الله مسائلي عنهم، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفتُ ألا يثبت لي عند الله عذر، ولا يقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، فخفتُ على نفسي خوفًا دمعتْ له عيني، ووجِلَ له قلبي، فأنا كلما ازددتُ لها ذكرًا ازددتُ لهذا وَجَلًا(11).
10 – طريقة عبد الله بن عمر: المعاقبة عند التقصير:
فاتت ابن عمر (رضي الله عنهما) صلاة الجماعة فأحيا تلك الليلة كلها(12).
وفاتت ابن أبي ربيعة ركعتا سنة الفجر فأعتق رقبة(13).
وعاقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدّق بأرض قيمتها مئتا ألف درهم!
وهذا أمر حسن ومُجرَّب مع كثير من الأصدقاء، فكنا نتفق معهم أن من فاتته صلاة الفجر جماعة في المسجد يصبح وهو ينوي صيام هذا اليوم، وقوفًا مع نفسه حتى لا تألف التفريط، فأثبت هذا الأمر نجاحًا كبيرًا، وقلّت نسبة الذين لا يصلون الفجر بيننا كثيرًا ولله الحمد والمنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
- ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان، 82.
- الغزالي، إحياء علوم الدين، 4/589.
- ابن الجوزي، صفة الصفوة، 2/ 205.
- السابق، 2/ 117.
- ابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين، 375.
- الغزالي، إحياء علوم الدين، 4/ 591.
- ياسر عبد الرحمن، موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق، 1/ 96.
- الإمام أحمد، الزهد، 171.
- ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، 1/188.
- الغزالي، إحياء علوم الدين، 5/ 238.
- ابن أبي الدنيا، محاسبة النفس، 111، 112، بتصرف، وابن الجوزي، سيرة عمر بن عبد العزيز، 164.
- أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، 1/ 303.
- ابن المبارك، الزهد، 528.