جاء البيان الذي أصدره مساء أمس (3 أبريل) 103 من ضباط البحرية التركية المتقاعدين، الذي يعترض فيه على شق تركيا قناة جديدة (تسمى إسطنبول) موازية لمضيق البوسفور، ووضع دستور جديد يحل محل دستور العسكر القديم، ليطرح تساؤلات حول الهدف من ورائه، وسر جرأة هؤلاء العسكريين بعد وأد الشعب انقلابهم الأخير في يوليو 2016.
الجنرالات الـ103 رفضوا في بيانهم عزم الحكومة تنفيذ مشروع قناة إسطنبول المائية التي تصل البحر الأسود ببحر مرمرة بشكل موازٍ لمضيق البوسفور، بدعوى أنه قد يفتح نقاشاً دولياً يضر تركيا حول اتفاقيات دولية بالمضائق البحرية يعتبرونها انتصاراً لكمال أتاتورك.
تضمن البيان تهديداً وإدانة لسعي حكومة الرئيس التركي رجب أردوغان إخراج تركيا عن قيمها وعن “الخط الذي رسمه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية”، سواء فيما يخص اتفاقية مونترو أو وضع دستور جديد لتركيا بعدما تخلصت من الحكم العسكري.
تضمن البيان تهديداً وإدانة لسعي حكومة الرئيس أردوغان إخراج تركيا عن قيمها وعن “الخط الذي رسمه مصطفى كمال أتاتورك
لهذا اعتبر مراقبون البيان بمثابة محاولة انقلاب جديدة، أو على أقل تقدير تحريض العسكر الحاليين على القيام بانقلاب عسكري؛ ما فتح الباب أمام ردود فعل شعبية وحكومية حاسمة تطالبهم بالتزام حدودهم، والمطالبة بالتحقيق معهم ونزع رتبهم العسكرية.
رد الجيش
رد فعل الجيش كان هو الأهم؛ حيث هاجمت وزارة الدفاع التركية أميرالات البحرية المتقاعدين؛ بيانهم هذا، وقالت الوزارة في بيان رسمي، اليوم الأحد: إن إصدار مثل هذا البيان “لن يؤدي إلا إلى الإضرار بالديمقراطية، والتأثير سلبًا على الروح المعنوية لأفراد القوات المسلحة التركية”.
وأشارت وزارة الدفاع إلى أن “نشر البحرية لهذا البيان لن يفيد سوى الأعداء فقط”، وأنه لا يمكن لأحد أن يستخدم القوات المسلحة التركية “أداة للطموحات الشخصية”.
ما اتفاقية مونترو، وقناة إسطنبول؟
بعد انهيار الخلافة العثمانية واحتلال جيوش غربية لتركيا وسعيها لوقف تغلغلها في البحار والمضائق عبر اتفاقيات بحرية تقيدها، جرى توقيع اتفاقية “مونترو” التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1936، بهدف تنظيم حركة مرور السفن عبر المضائق التركية إلى البحر الأسود.
وقد سمحت الاتفاقية لأساطيل الغرب بالبقاء في هذا البحر، وتشمل سفن الدول المطلة على البحر الأسود (أوكرانيا وروسيا وجورجيا وتركيا وبلغاريا ورومانيا) وغير المطلة.
وقد سعى الرئيس التركي لتدشين “قناة إسطنبول” (مشروع قناة إسطنبول المائية التي تصل البحر الأسود ببحر مرمرة بشكل موازٍ لمضيق البوسفور) بهدف سياسي هو تحجيم وجود أساطيل الغرب في مضيق إسطنبول البوسفور، وهدف اقتصادي هو تحقيق إيرادات منها؛ حيث إن المرور من مضيق البوسفور مجاني.
فيما يرى خبراء أن الهدف الرئيس للقناة هو الالتفاف حول اتفاقية مونترو التي تحد من عدد وأطنان السفن من القوى غير المطلة على البحر الأسود التي يمكنها الدخول عبر البوسفور، وهو ما يخشى جنرالات ومعارضون أن يهدد الاتفاقية التي يعتبرها الضباط المتقاعدون نصرًا عسكريًا تاريخيًا حققه مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.
وترجع الاتفاقية لعام 1936، ووقعت عليها تركيا والاتحاد السوفييتي السابق وبريطانيا وفرنسا واليونان وبلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا واليابان وأستراليا.
وتسمح الاتفاقية للسفن التابعة للدول المطلة على البحر الأسود بحرية المرور والوجود في حوض البحر الأسود، أما السفن التابعة لدول خارج حوض البحر الأسود، فيُسمح لها بالوجود لمدة ثلاثة أسابيع.
وزارة الدفاع: “لا يمكن لأحد أن يستخدم القوات المسلحة التركية أداة للطموحات الشخصية”
وتتحمل تركيا المسؤولية المباشرة عن مرور السفن الأجنبية لحوض البحر الأسود، وعبرت مراراً عن رغبتها في فرض إجراءات أكثر صرامة، تمكنها من التحكم في حركة سفن نقل البترول وغيرها كونها “تشكل خطراً على البيئة”.
وطالما كان مرور السفن الحربية سبباً في مشادات بين تركيا والدول الموقعة على الاتفاقية، وخاصة روسيا، حيث تسمح الاتفاقية بعبور السفن الحربية الصغيرة فقط، خشية تحول حوض البحر الأسود إلى منطقة عسكرية.
ثالث ثلاثة
“قناة إسطنبول” التي يصر أردوغان على حفرها هي ثالث أهم ثلاثة مشاريع عملاقة أعلن عنهم في عام 2011، وتهدف إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي للبلاد ليصل إلى تريليوني دولار بحلول الذكرى المائة لإعلان الجمهورية، في عام 2023.
تتضمن المشروعات مطار إسطنبول الجديد، الذي افتُتحت المرحلة الأولى منه في أبريل 2019، بعد نقل رحلات مطار أتاتورك إليه، والمشروع الثاني هو مد طريق بري بطول الغابات الواقعة على ساحل البحر الأسود، وصولاً إلى المطار الجديد، بهدف جلب البضائع من أوروبا وآسيا.
لكن المشروع الأكبر والأكثر إثارة للجدل فهو “قناة إسطنبول”، وهي مجرى مائي مواز لمضيق البوسفور، على بعد 30 كيلومتراً منه في اتجاه الغرب تربط البحر الأسود في الشمال ببحر مرمرة في الجنوب.
هذا المشروع سيغير من وجه النقل البري والبحري في تركيا، ويخفف من الضغط على قناة البوسفور في الشرق، التي تعتبر من أكثر الممرات المائية ازدحاماً وتشهد كثافة ملاحية هي الأعلى على الصعيد العالمي.
ففي عام 2017 وحده، مرت من خلال مضيق البوسفور 53 ألف سفينة مدنية وعسكرية مقارنة بـ17 ألف سفينة مرت عبر قناة السويس، و12 ألف سفينة مرت في قناة بنما.
وتقول الحكومة التركية: إن مشروع القناة سيدر عليها 8 مليارات دولار سنوياً، مقابل الرسوم التي ستدفعها السفن مقابل المرور عبرها، كون القناة لن تخضع لاتفاقية مونترو التي تنص على حرية الملاحة في مضايق البحر الأسود، ومن بينها البوسفور.
ورغم أن الحكومة التركية تقول: إن القناة الجديدة ستخفف من العبء الملاحي عن مضيق البوسفور، وتقلل من الانبعاثات والمخلفات التي قد تضر بالمناطق الأثرية والتراثية المحيطة، فإن المعارضة ترى أن القناة ستعزل المنطقة الأثرية في إسطنبول وتحولها إلى جزيرة.
ويعارض عمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، خطط حفر القناة، ووصفها بأنها “مشروع كارثي سيتسبب في مجزرة بيئية”.
ويعارض الجنرالات الـ103 قناة إسطنبول بدعوى أن “المضائق البحرية التركية تعتبر أهم المعابر المائية في العالم، وأديرت باتفاقيات دولية متعددة الأطراف سابقاً، ومن نتيجة الاتفاقيات اتفاقية مونترو التي تحمي حقوق الشعب التركي بأفضل شكل، من خلال السيطرة التركية على المضائق بشكل كامل واتفاقية لوزان (1923 اتفاقية الصلح) تكمل هذا النصر الدبلوماسي، وشكّلت الاتفاقية البحر الأسود بحراً للسلام للدول المطلة عليه”.
ويقولون: إن “اتفاقية مونترو تمنع تركيا في حال نشوب أي حرب أن تكون مع أحد أطراف الحرب، ما وفر لتركيا حق الحياد في الحرب العالمية الثانية، ولكل ما سبق فإنه يجب الابتعاد عن نقاش اتفاقية مونترو أو تناوله بشكل قطعي”، حسب زعمهم.
اعرفوا حدودكم
لهذا جاء رد فعل الحكومة على الجنرالات حاسماً، وقال رئيس دائرة الاتصالات في رئاسة الجمهورية، فخر الدين ألتون عبر “تويتر”: “الشعب أظهر للصديق والعدو في 15 يوليو 2016، كيف داس على الانقلابيين.. اعرفوا حدودكم”.
وأضاف: “تركيا دولة قانون؛ فمن أنتم؟ وبأي حق تشيرون بأصابعكم لإرادة الشعب الشرعية؟
مشروع “قناة إسطنبول” سيغير من وجه النقل البري والبحري في تركيا، ويخفف من الضغط على قناة البوسفور في الشرق
تركيا دولة قانون لا تنسوا ذلك، ولن تستطيع قوى الوصاية من التسبب بأي ضرر للديمقراطية”.
وألمح رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب ،عبر “تويتر”، إلى أن ما فعله العسكر يرقى لمحاولة الانقلاب، قائلاً: “التعبير عن الرأي يختلف عن الدعوة للانقلاب وإعداد البيانات”.
أيضاً انتقد زعيم حزب الحركة القومية وحليف الرئيس التركي، دولت بهتشلي، البيان الذي أصدره الجنرالات وطالب بـ “إجراءات يجب اتخاذها فورًا حسب رأي حزبنا هي كالتالي: يجب تجريد الأدميرالات الذين وقعوا على الإعلان، المعد بأسلوب المذكرة والصادر عند منتصف الليل، من رتبهم ويجب إلغاء حقوقهم التقاعدية، وقطع معاشاتهم التقاعدية، يجب إجراء تحقيق قضائي وإداري متعدد الأوجه ضد هذا البيان المعلن”.
وقد بدأت النيابة العامة في العاصمة التركية، أنقرة، تحقيقًا بشأن البيان. ونقل موقع «جمهورييت» التركية عن النيابة العامة قولها في بيان اليوم الأحد، أنه سيتم التحقيق مع الموقعين على البيان ومن يقف وراء إعداده.