في 25/ 11/ 1991م بعد أن منَّ الله تعالى على الكويتيين بتحرير أرضهم من المحتل الغاصب، أطل فضيلة الشيخ د. جاسم المهلهل الياسين –حفظه الله- على قراء “المجتمع” بكتابة سلسلة من المقالات بعنوان “استراحة مرابط” يبث فيها ذكرياته أثناء رباطه على أرض الكويت، ولأهمية هذه السلسلة تعيد “المجتمع” نشرها ليعم خيرها.
وفضيلة الشيخ جاسم المهلهل الياسين من رجال الحركة الإسلامية الذين كان لهم دور بارز في معركة العصيان المدني التي قام بها الشعب الكويتي ضد الاحتلال البعثي العراقي، حيث كان من قادة المرابطين الذين أسسوا لجان التكافل الشعبية لدعم صمود الكويتيين، كما كان له دور آخر في توعية الناس، ورفع هممهم ومعنوياتهم في المساجد والمنتديات الاجتماعية، واليوم يلتقي فضيلة الشيخ مع قراء “المجتمع” في “استراحة مرابط” في عدة حلقات تبدأ من هذا العدد.
معنى الاستراحة
ليست الاستراحة انتقالاً من حال اليقظة الدائمة والتنبه الحذر لكل أمر يرقبه المرابط إلى حال الغفلة التامة أو النوم الدائم، ليس الأمر كذلك، وإنما مقصودنا من الاستراحة، أن تعود للإنسان نفسه بعد الإعياء (كما جاء في القاموس) فيتأمل ما حوله ويتدبر كل أمره وأمر وطنه وأمته ويعتبر من ذلك كله ويستخلص هذه العبرة ليعرضها أمام إخوانه ومحبيه.
الرباط مكرمة من الله
من كرم الله سبحانه وتعالى على عبده أن يسر له الخير ويهيئ له المنازل الطاهرة وفق مقتضى علمه وعدله، وقد أكرم الله سبحانه وتعالى في الفترة السابقة مجموعة من أهل الكويت بعبادة الرباط وهم بين أهاليهم فمارسوها بنية صادقة، وعمل بيّن، وهم يستمعون لسلمان الفارسي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه أجرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان” (رواه مسلم).
واستراحة المرابط هذه يُراد فيها خير الدنيا والآخرة أخذاً من الحديث المتفق عليه: “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها”، والخير هو الذي نريده للمرابط والقارئ والمحب والمتردد والله نسأل التوفيق والسداد.
الاستراحة الأولى: محبتنا للجميع وقلوبنا لا تحمل إلا خيراً
المحبة لا خيار لنا فيها فهي الطريق للجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا…” (الحديث)، والمحبة تفوح من المحبين وإن كتموها، وتظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها وتبدو عليهم وإن ستروها، ولم لا تكون بهذا الظهور والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف”، ومحبة كهذه هي من صنع الله سبحانه (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) (السجدة: 7)، فهي كرم الله في عنايته بعباده “ولتصنع على عيني” وجدها في نفوسنا بعد أن كنا نرى الموت في كل لحظة، ثم أنعم علينا برؤية الشمس مشرقة والورود مفتحة، فهذا نسيم الحرية والحياة يتلاعب بلحانا وأنفاسنا، إنها الحياة الجديدة التي وهبنا الله إياها فجعلتنا نفكر بطريقة أهل الآخرة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) (الحجر: 47)، محبة جعلت المرابط يعيش ويحيا في قيم سلفية طاهرة لا يعرفها أصحاب المصالح الدنيوية والألاعيب السياسية، فأحيوا قيمة ضمضمية أصلها الصحابي الجليل ضمضم، قيمة العفو عند المقدرة شعارهم فيها “ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً”، حيث علم من الحال أن أثر العفو من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس ما ليس في الانتقام، فالعفو يكسر شوكة العداوة، وقد قيل: إنه من أساء إليك فهذا قد وهبك حسناته، فإن كنت من أهل الكرامة، فأثبه على فعله بإحسانك لتثبت الهبة، وهذا أمر لا يستطيعه إلا العارفون بربهم كما في قولهم: “كن مع الحق بلا خَلق وكن مع الخَلق بلا نفس”، وقيمة هذا الخلق وأصله الذي انبثق منه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح في قوله لأهل مكة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
ما أجملنا حينما كنا نردد في وقت الاحتلال وبعده ما كان يردده أبو ضمضم رضي الله عنه الصحابي الجليل في كل صباح: “اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس فمن شتمني أو قذفني فهو في حل”، حيث نبينا صلى الله عليه وسلم يقول عند سماعه لهذا الدعاء: “من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم”، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وبهذا كانوا من أهل الجنة وهم يمشون على الأرض.
كذلك الرجل الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة ثلاث مرات، وسبب هذه البشارة ما قاله الرجل لعبدالله بن عمرو: “ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه”.
وبهذا الحب أحيا المرابط قيمة الرحمة بمفهومها الواسع الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة”.
وبعد هذا الإجمال نؤكد أننا لا نحمل في قلوبنا على إخواننا الذين تخلوا عنا في موضع النصرة شيئاً، لأننا بفضل الله لم نرتبط معهم بمصلحة دنيوية أو بمكسب زائل إن أعطينا منه رضينا وإن منعنا سخطنا، ويكفيهم أنهم قد يتعرضون لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئِ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته”، وإن عندي بين يدي من منقول ومسموع ومكتوب ومرأي ما ينذر بخطر شديد، أسأل الله اللطف للجميع.