يُعد العالم الكُردي سعيد النورسي (12 مارس 1876 – 23 مارس 1960م) أحد أبرز علماء الإسلام في تاريخ تركيا الحديث، وقد خلَّف تراثاً كبيراً في تفسير القرآن الكريم والدفاع عن الإسلام، في حقبة كانت تتعرض فيها شتى مظاهر الإسلام للاضطهاد والمُطاردة عقب سقوط الدولة العثمانية.
وأشهر آثار الأستاذ النورسي كانت “رسائل النور” التي وضع فيها خلاصة دراساته في تفسير القرآن الكريم، وقد نقل هذه الرسائل إلى اللغة العربية أ، إحسان قاسم الصالحي، الذي التقته “المجتمع” وفيما يلي نص الحوار:
من هو إحسان قاسم الصالحي؟
– أنا إحسان بن قاسم بن مصطفى الصالحي، ولدتُ في كركوك، العراق 1 يوليو 1937م، وكان والدي كل شيء في حياتنا العائلية، نكنّ له حبًا لا يوصف، وقورٌ مهيب شفيق نشعر بدفء شفقته دومًا، لم يكن يختلط معنا كثيرًا، يتناول وجبات طعامه منفردًا، ملَك علينا مشاعرنا، كان عالمًا بالعربية بفروعها كافة من أدب ونحو وبلاغة وغيرها، وكان يجمعنا على الموقد في ليالي الشتاء ويسرد لنا بعض الحكايات، لم نكن نفهم كثيرًا كنه تلك الحكايات في وقتها إلى أن كبرنا وأدركنا الحكمة والمغزى منها.
ماذا عن دراستك وتخصصك؟
– تخرجتُ في كلية التربية جامعة بغداد عام 1958 قسم علم النبات.
وماذا عن أسرتك؟
– تزوجتُ وأنجبت 4 بنين (سعد، جنيد، أُسيد، حامد) وبنتاً واحدة (أسماء).
كيف وصلت إلى قراءة “رسائل النور” وترجمتها رغم أن تخصصك بعيد عن علوم الشريعة؟
“رسائل النور” ترجمتُ بمنتهى الصدق والأمانة
– لمّا كانت الدروس في القسم البيولوجي للكلية منطلقة من نظرية التطور، حتى كان في قاعة الدرس تمثال نصفي لدارون، من دون أن يكون لنا أي رصيد إيماني علمي لدحض هذه النظرية، بدأنا نبحث عن ملجأ وعلاج، إلى أن جاء الأخ رمزي محمد جميل، الطالب في كلية الطب بجامعة إسطنبول، وقد كنا نجلس على المقعد نفسه في الصف الأول الابتدائي، وقال: يقولون: إن بديع الزمان سعيد النورسي قد دحض هذه النظرية من أساسها، فذهبت إلى صديقي أحمد رمضان وذكرت له الأمر، قال: نعم، وأهداني كتاب “LEMALAR” التركي (المطبوع عام 1957م من قبل سعيد أوزدمير، وعاطف أورال)، تصفحته ولم أر فيه دارون ولا التطور، فوضعته جانبًا، وكنت أقلب الكتاب أحيانًا وأقرأ بعض الصفحات منه ثم أدَعه، ولم أنتبه في حينه أن “اللمعة الثالثة والعشرين” التي هي رسالة الطبيعة تقوّض النظرية وتُبيد تيار الكفر النابع من مفهوم الطبيعة إبادة تامة وتُفتّت حجر زاوية الكفر وتحطّم ركيزته الأساس.
كيف تعرّفت على حركة النورسي؟
– في عام 1975م، وفي أول سفر سياحي مع العائلة بسيارتنا الخاصة إلى تركيا، كنا عازمين على زيارتها مدينة تلو أخرى، وهكذا إلى أن وصلنا مدينة “أونية” على ساحل البحر الأسود، فاقتنيت هناك كتابين عن حياة سعيد النورسي بالتركية، أحدهما “بديع الزمان وجوانب مجهولة من حياته” والآخر “طريق نورس”، والكتابان لنجم الدين شاهينر.
وفي عام 1977م، قمنا مع العائلة أيضًا بسفر مماثل، فكانت مدينة دياربكر أولى المدن في زيارتنا، ونزلنا في فندق مريح على شارع الملك أحمد، وقد كنت أرغب في لقاء طلاب النور الذين لم نظفر بهم في السنة السابقة، الغريب أن أحدهم في الفندق همس في أذني: إذا أردتم لقاء طلاب الشيخ سعيد فهم في الطابق الخامس، تعجبت من كلامه هذا لأنني لم أتكلم عن رغبتي هذه لأحد! وفعلًا صعدت الطابق الخامس ووجدتهم متحلقين على منضدة يقرؤون “رسائل النور” ويتباحثون فيما بينهم، ودخلت معهم في بحث أمور كثيرة.
ثم أخذوني إلى مدرسة نورية فرأيت مدارسهم لأول مرة، وبالليل أخذوني إلى درس من دروس النور وقرأ أحدهم (وهو د. محمد جوشقون سيل) قطعة رائعة لوصف يد الرسول صلى الله عليه وسلم، لم أسمع مثلها من قبل وهي: اليد الشريفة المباركة، لو سُطّرت هذه القطعة بماء الذهب، ورُصّعت بالألماس لكانت جديرة، إن تسبيحَ الحصى وخشوعَه في كفه صلى الله عليه وسلم، وتحوّلَ التراب والحصيات فيها كقذائف في وجوه الأعداء حتى ولّوا مُدبرين بقوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾، وانفلاقَ القمر فلقتين بإصبعٍ من الكفِّ نفسها كما هو نص القرآن الكريم: ﴿وَانشَقَّ الْقَمَر﴾، وفورانَ الماء كعينٍ جارية من بين الأصابع العشرة وارتواء الجيش منه، وكونَ تلك اليدِ بلسمًا للجرحى وشفاءً للمرضى، لَيبيّن بجلاء: مدى بركة تلك اليد الشريفة، ومدى كونها معجزة قدرة إلهية عظيمة، لكأن كفَّ تلك اليد:
نظرية التطور سبب تعرّفي على أ، سعيد النورسي!
زاويةُ ذكر سبحانية صغيرة بين الأحباب، لو دخلها الحصى لسبّح وذكر..
وتِرسانةٌ ربانية صغيرة تجاه الأعداء، لو دخلها الترابُ لتطاير تطايرَ القنابل..
وتعود صيدليةً رحمانية صغيرة للمرضى والجرحى، لو لامستْ داءً لغدتْ له شفاءً..
وحينما تنهضُ تلك اليدُ تنهض بجلالٍ فتشقُّ القمرَ شِقين بإصبع منها..
وإذا التفتتْ التفاتةَ جمالٍ فجّرتْ ينبوعَ رحمةٍ يَدفُق من عشر عيونٍ تجري كالكوثر السلسبيل..
فلئن كانت يدُ هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم موضعَ معجزاتٍ باهرة إلى هذا الحد..
ألا يُدرَك بداهةً: مدى حظوتِه عند ربه، ومبلغَ صدقه في دعوته، ومدى سعادة أولئك الذين بايعوا تلك اليد المباركة؟
متى بدأت في ترجمة “رسائل النور”؟ ومتى انتهيت منها؟
– بدأت عام 1979، وانتهيت عام 1992م
هل تلقيت أي دعم من مؤسسة خيرية أو حكومية لمساعدتك في ترجمة هذه المجلدات؟
– على الإطلاق! لم أتلق أي دعم مادي من أي حكومة أو مؤسسة.
هناك بعض الملاحظات على ترجمتك لـ”رسائل النور” من قِبل بعض الباحثين الأتراك، فما تعليقك؟
– ترجمتُ رسائل النور بمنتهى الصدق والأمانة، لكن اللبس يعود إلى أن الأتراك لا يجيدون قواعد اللغة العربية، فنحن مثلاً نقول: جاء محمد، وهم يقولون: محمد جاء، وأنا في ترجمتي أعتمد على قواعد اللغة العربية لتصل للجمهور العربي بطريقة صحيحة.
نرى في “رسائل النور” ذكر الأحداث التي مرت بالنورسي أو مرّ بها، بل حتى الكلام عن أهل بيته أو طلابه مما لا نراه في تفاسير أخرى، وهذا يدفعنا إلى القول: إنها قاصرة على فترة معينة، أي لا بد لنا من رسائل أخرى لهذا العصر أيضًا.
– هذا السؤال ذكرني بنفس سؤال قيل في أحد المؤتمرات، وقد رد عليه أ. فريد الأنصاري، رحمه الله، فقال: نعم، إن النورسي قد سجل سيرة حياته في الرسائل، ذكرها لتوظيفها في بيان أهمية الإيمان وبيان عظمة القرآن وأحقيته، وكيف أنه أنقذه من ورطات وهموم، هذا أولًا، فهي إذن ذكرُ توظيف وليس سرد تاريخ، هكذا ألّف النورسي “رسائل النور”، عبر حياة متنقلة من سجن إلى سجن ومن منفى إلى آخر! ما بين رجل العلم والسياسة، الذي هو سعيد القديم، إلى رجل القرآن والتربية، الذي هو سعيد الجديد؛ كان النورسي ينسج غلائل النور عبر رسائله النورية، كل ذلك أدى إلى أن تكون رسائل النور ذات تداخل موضوعي وحيوي في الحياة، نعم فيها تسجيل لمراحل من عمر النورسي الحافل المديد (83 عاماً)، التي وظفت لبيان حقائق القرآن، وفيها نصوص وقضايا لا يتم فهمها إلّا بردّها إلى أحداث وقوعها، كما أن فيها جزئيات لا يمكن فهمها إلّا بإدخالها ضمن كُلِّيِّهَا!
ماذا يفعل إحسان قاسم الصالحي الآن بعد هذه الرحلة في الحياة؟
– أقيم في إسطنبول منذ عام 1992م، وقد حصلت على الجنسية التركية، وشاركت في عشرات المؤتمرات حول رسائل النور وفكر أ. سعيد النورسي، وأتمنى أن يعود النشاط العلمي من جديد عقب انتهاء جائحة كورونا.