تُجرى في الثامن من سبتمبر الحالي الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية متزامنة لأول مرة في تاريخ المغرب، وسط صراع شديد بين الأحزاب السياسية، عنوانه الأول ترقب نتائج حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية برتبة قد تسمح له أو لا بقيادة الحكومة للمرة الثالثة على التوالي، وترؤس المدن المغربية الكبيرة كما حدث في الانتخابات السابقة.
ويخوض حزب العدالة والتنمية هذه الانتخابات في غياب أسماء وازنة من الصف الأول اختياراً، منهم وزراء وبرلمانيون كانت لهم الكلمة القوية في مسارهم السياسي، مثل وزير حقوق الإنسان مصطفى الرميد، أو قصراً بالتشطيب على أسمائهم في اللوائح الانتخابية أبرزهم الحقوقي والأستاذ الجامعي عبدالعالي حامي الدين، ورئيس جهة الرباط عبدالصمد السكال، لكن الغياب الأكبر سيكون ولا شك مقترناً باسم عبدالإله بن كيران الأمين العام السابق للحزب رئيس الحكومة السابق، الذي وضعت في وجهه عراقيل كثيرة، لكي لا يقود الحكومة مرة ثانية، وفسر عدم ترشحه بالرغم من إصرار بعض قيادات الحزب على ذلك، بأنه لا يريد أن يتحمل مسؤولية تدبير هذه المرحلة التي يديرها الأمين العام سعد الدين العثماني وهو أيضاً رئيس الحكومة الحالي.
سي كوي: المشهد السياسي المغربي تشوبه ضبابية خصوصاً بعد اعتماد قاسم انتخابي غريب غير معتمد لا في الدول الديمقراطية ولا الدكتاتورية
الأعيان في الواجهة
في ظل كل ذلك يتسم المشهد السياسي بمميزات تظهر لأول مرة في تاريخ الانتخابات المغربية؛ حيث يذكر الإعلامي والكاتب المغربي محمد كريم بوخصاص، في تصريح لـ”المجتمع”، أنه على بعد ساعات قليلة من انطلاق الحملة الانتخابية الرسمية، خيم على أجواء الانتخابات صورتان؛ أولاهما: رهان غالبية الأحزاب –باستثناءات قليلة- على الأعيان الانتخابية على حساب المناضلين، ولم يجد عدد من الأمناء العامين للأحزاب حرجاً في الدفاع عن هذا الخيار بدعوى أن الأهم هو كسب مقعد انتخابي وليس شيئاً آخر.
ثانيتهما: أن الحملة الانتخابية ستدور رحاها في مواقع التواصل الاجتماعي، عكس الانتخابات السابقة، وستساهم الإجراءات الاحترازية المفروضة بسبب جائحة كورونا في استثمار الأحزاب أكثر في عوالم التواصل الاجتماعي.
ويرى الباحث في العلوم السياسية بسلك الدكتوراه عبدالصمد فاضل، في تصريح لـ”المجتمع”، أن المشهد السياسي بالمغرب نضج كثيراً عما كان عليه سابقاً، ساهم في ذلك وضع دستور جديد، فرض على الأحزاب أن تساير هذا التغيير فعادت بذلك إلى الواجهة السياسية بقوة، مما خلق نوعاً من التنافسية.
وأبرز فاضل أن هذا المشهد يتميز أيضاً بوعي كبير لدى فئة عريضة من المواطنين بالجانب السياسي؛ الأمر الذي يفرض على الأحزاب الاستجابة لمتطلبات المواطن وفهم احتياجاته والحد من الممارسات “السياسوية” التقليدية، ولنا في الانتخابات التشريعية لسنة 2016 خير مثال، حيث إنه رغم كل الوسائل المستعملة للإطاحة بحزب العدالة والتنمية، أبى المواطن إلا أن يقول كلمته ويرسل بذلك رسالة مشفرة مفادها أن تلك الممارسات القديمة قد آن الأوان للحد منها ووضع حد لها إذا أردنا بناء مغرب قوي متماسك.
فيما يبرز المستشار البرلماني عن العدالة والتنمية عبدالسلام سي كوي، في تصريح لـ”المجتمع”، أن المشهد السياسي المغربي تشوبه ضبابية بشكل كبير، خصوصاً بعد اعتماد قاسم انتخابي غريب غير معتمد لا في الدول الديمقراطية ولا في الدكتاتورية.
ويؤكد أنه من غير المفهوم في كل ذلك أن تتواطأ أحزاب المعارضة وأحزاب الأغلبية في مشهد سريالي، مما يؤكد أن الجهات التي كانت عرقلت مسيرة تشكيل الحكومة بقيادة ابن كيران، تسعى مرة أخرى للقيام بنفس الأمر، ولكن بطريقة ناعمة.
بوخصاص: التوقعات تشير إلى أن هذه الانتخابات ستعرف عزوفاً من المواطنين بسبب كورونا وضعف الأحزاب السياسية
قوانين غريبة
ويشير سي كوري، وهو أيضاً نائب عمدة مدينة مراكش العاصمة السياحية للمملكة، إلى أن ذلك يقود إلى طرح قضية استقلالية القرار الحزب، موضحاً أن المشهد الحزبي سيزداد تعقيداً بعد الانتخابات، ستعرف المجالس المنتخبة “بلقنة” (وجود أحزاب كثيرة في المجالس المنتخبة وصعوبة تشكل تحالفات قوية) غير مسبوقة مما سيعرقل عملها وبالتالي عرقلة مصالح المواطنين.
ويوضح سي كوري أن القوانين التي أجازها البرلمان بغرفتيه وخصوصاً القاسم الانتخابي المبني على قاعدة المسجلين وليس المصوتين واحتساب الأصوات الملغاة وكذا إلغاء العتبة ستساوي في المقاعد البرلمانية بين من حصل على أغلبية الأصوات ومن حصل على أقلها مما سيفقد المنافسة الشريفة مضمونها.
ويؤكد الإعلامي كريم بوخصاص: ليس هناك أدنى شك في أن القوانين الانتخابية الجديدة سيكون لها تأثير على العملية الانتخابية ومخرجاتها، خاصة القاسم الانتخابي على أساس المسجلين بدل الأصوات الصحيحة الذي سيساهم في بلقنة المشهد السياسي أكثر، خصوصاً على مستوى الجماعات المحلية، كما سيساهم في “تسقيف” عدد المقاعد المحصل عليها من طرف الأحزاب التي ستتنافس على المرتبة الأولى، حيث لن يكون بمقدور أي حزب تحقيق أكثر من 100 مقعد كما حصل في انتخابات 2011 و2016 مع العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، ويبزر أن المشكل الأعمق هو أن كل الأحزاب ستحصل على مقاعدها بأكبر بقية لاستحالة وصولها إلى القاسم الانتخابي الجديد، مما سُيضعف البرلمان ويفقده أي مضمون سياسي.
فيما يبرز الباحث فاضل أن القاسم الانتخابي الذي خلق ضجة كبيرة حول مصداقيته لا يتعارض مع روح الدستور ولا يغير في الحقيقة شيئاً، بل وسيمكن بعض الأحزاب الأخرى الصغيرة إلى الوصول لأول مرة إلى قبة البرلمان منذ تأسيسها.
بوخصاص: العدالة والتنمية ما زال مرشحاً فوق العادة لاحتلال المرتبة الأولى للمرة الثالثة على التوالي رغم المشكلات الداخلية
كورونا مؤثرة
تُجرى هذه الانتخابات في وقت تعرف فيه البلاد أرقاماً قياسية في عدد الإصابات والوفيات بسبب وباء كورونا، وبالرغم من أن الحياة وحركة الساكنة توشك أن تعود إلى طبيعتها بسبب تكثيف حملة التلقيح والسماح للملقحين بالتنقل، فإن هذه الجائحة سيكون لها تأثير كبير خصوصاً على التصويت ونسب المشاركة، كما يبرز سي كوري، ولا سيما أنه لا بوادر في الأفق على تراجع انتشار هذا الوباء ولا على تراجع عدد الإصابات، وهذا تحدٍّ كبيرٌ قد يحد من المشاركة في التصويت بسبب الخوف من الإصابة، كما أن الحملات الانتخابية تعتمد بشكل كبير على التجمعات وعلى توزيع المطبوعات، وهذا قد يفاقم الوضع أو قد يسبب في عزوف الناخبين عن المشاركة في هذه التجمعات أو تسلم المطبوعات، كما أن اعتماد الوسائل الرقمية وحدها غير كافٍ لأن فئة كبيرة من المواطنين لا تستعمل هذه الوسائل.
ويتوقع الإعلامي بوخصاص أن تساهم جائحة كورونا في خفض نسبة الإقبال على التصويت يوم الاقتراع، لكن فضلاً عن هذا المانع الموضوعي، فإن التوقعات تشير إلى أن هذه الانتخابات ستعرف عزوفاً من طرف المواطنين بخلاف الانتخابات السابقة التي جرت بعد دستور 2011، ويساهم في ذلك ضعف الأحزاب السياسية وعجزها عن إقناع المواطنين وتجديد نخبها وغيرها من العوامل الأخرى.
ويؤكد فاضل بأن جائحة كورونا أثرت على العالم بأسره والمغرب ليس استثناء، لكن بفضل الجهود الكبيرة التي بذلها المغرب في مواجهة هذه الجائحة منذ بدايتها من توفير لوسائل الوقاية وتحسيس المواطنين بخطورة الوباء وكذا توفير اللقاح لعامة الشعب، فهذه في حد ذاتها تعتبر نجاحا للمغرب، ومن طبيعة الحال أن المشاركة في الانتخابات قد تكون نسبياً أقل مما تكون عليه في الظرفية العادية، لكن الأساس هو إجراؤها في وقتها مع توفير جميع وسائل الوقاية واحترام التدابير الصحية، كما أن مجموعة من الدول حول العالم أجرت انتخاباتها في عز الأزمة الوبائية، ومن الأكيد أن البعض قد يحرم من حقه في التصويت لكن الظرفية الاستثنائية لها خصوصياتها.
فاضل: التنافس سيكون قوياً بين مجموعة من الأحزاب التي بدأت تستخدم مقاربات جديدة للتواصل مع المواطن
تصدر المشهد
مع كل الإكراهات التي تصاحب هذه الانتخابات، فإن حزب العدالة والتنمية بمبادئه ومنهجه في الإصلاح وطريقة اختيار مرشحيه لمختلف الاستحقاقات تبقى حظوظه وافرة لتصدر المشهد السياسي لعدة اعتبارات. ويشرح سي كوري أن الحصيلة المشرفة للحكومة التي يترأسها الحزب وهي حصيلة مرقمة في مختلف المجالات، ثم الحصيلة المشرفة للمجالس المنتخبة التي سيرها الحزب خلال ست سنوات سواء بالنسبة للمدن الكبرى أو الصغرى والمتوسطة، وهذه المنجزات تم توثيقها وسيتم تسويقها. بالإضافة إلى ذلك فالحزب يتوفر على قاعدة عريضة من المتعاطفين الذين يلمسون الصدق والمصداقية في أعضاء الحزب بسبب قربهم منهم ويعرفون نظافة أيديهم مما يدفعهم للتصويت عليهم في الاستحقاقات، يؤكد المتحدث ذاته.
في الاتجاه ذاته، يبرز الكاتب الصحفي بوخصاص أن العدالة والتنمية ما زال مرشحاً فوق العادة لاحتلال المرتبة الأولى للمرة الثالثة على التوالي، رغم المشكلات الداخلية التي يعرفها منذ بلوكاج 2016 (عرقلة تشكيل حكومة ابن كيران الثانية) التي تفاقمت خلال مسار اختيار مرشحيه، وتكمن قوة هذا الحزب في ضعف منافسيه، لكن يبقى حزب التجمع الوطني للأحرار (يرأسه الملياردير والوزير عزيز أخنوش الذي دأب على التواجد في الحكومة لولايات متتالية) مرشحاً بقوة لتحقيق ما عجزت عنه الأحزاب السابقة في إزاحة حزب الإسلاميين، خاصة أنه سيكون المستفيد الأكبر من القاسم الانتخابي الجديد بعد استقطابه للأعيان ومحترفي الانتخابات.
ويبقى الأصالة والمعاصرة (ثاني أقوى حزب في المغرب) مرشحاً لاحتلال إحدى المراتب الثلاث الأولى رغم أنه فقد كثيراً من الدعم الذي كان يستفيد منه سابقاً، ويعول هذه المرة على خطابه الجديد مع وصول عبداللطيف وهبي إلى الأمانة العامة للحزب، الذي يبدو منفتحاً على العدالة والتنمية الذي كان يعتبر التحالف معه في السابقة خطاً أحمر.
أما الباحث السياسي عبد الصمد فاضل فيبرز أن التنافس سيكون قوياً بين مجموعة من الأحزاب التي بدأت تستخدم مقاربات جديدة للتواصل مع المواطن وفي استقطاب مرشحيها، على عكس القطبية الثنائية التي كانت في الانتخابات التشريعية السابقة بين حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة.
ويبرز أن الصراع سيحتدم بين 4 أحزاب على الأقل، وهي: الأصالة والمعاصرة، وحزب التجمع الوطني للأحرار، وحزب العدالة والتنمية، ثم حزب الاستقلال، مع فارق بسيط بينها بحكم القاسم الانتخابي الجديد الذي سيحول دون شك من تحقيق الفروق الشاسعة بين الأحزاب الأولى.
انتظارات
بالرغم من أن الانتخابات آلية فقط لترسيخ الديمقراطية التي هي أشمل وتهم جوانب متعددة من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن انتظارات المواطنين من هذه الانتخابات تبقى مشروعة، بل وكبيرة، كما يؤكد سي كوري، خصوصاً في ظل تداعيات جائحة كورونا التي أثرت بشكل كبير على معاشهم اليومي.
لكن المشكل في هذه الانتخابات، كما يشرح الإعلامي بوخصاص، هو أن رهان إفراز أغلبية منسجمة ومتماسكة أصبح في مهب الريح حتى قبل إجراء الانتخابات، لأن القاسم الانتخابي الجديد سيزيد من البلقنة وسيمنع أي إفراز سياسي حقيقي.
كما أن جميع القطاعات تأثرت، وبالتالي فجميع الفئات تنتظر من هذه الانتخابات أن تنبثق عنها حكومة ذات مصداقية للاستمرار في معالجة تداعيات هذه الجائحة وتعيد للاقتصاد حيويته وتوسع من دائرة الحماية الاجتماعية للفئات الهشة والفقيرة، يبرز سي كوري، كما ينتظر المواطنون من هذه الانتخابات مجالس محلية مسؤولة قريبة منهم تحافظ على المكتسبات وتوسع دائرة خدمات القرب والاستمرار في الترافع لدى الجهات المعنية لمعالجة المشاكل البنيوية التي تعاني منها هذه المدن.
ويشاطر الباحث فاضل رأي السياسيين والمتتبعين في أن الرهان الأول حالياً هو مكافحة وباء كورونا وعودة الحياة إلى طبيعتها في جميع أرجاء البلاد، لتتحرك بذلك عجلة الاقتصاد الوطني، كما أن الرهانات الأساسية التي تنتظر الحكومة المقبلة هي تنزيل وتفعيل مضامين الدستور التي لا تزال الكثير من مقتضياته لم ينزل بعد، ثم الرهان الأكبر في تنزل مشروع القانون الإطار للحماية الاجتماعية لعموم المغاربة الذي أطلقه الملك محمد السادس، فهو التحدي الأكبر والرهان الكبير الذي يجب على الحكومة المقبلة تنزيله، ناهيك عن الانتظارات الأخرى في مجال الصحة والتعليم والتشغيل.