رغم أن العام 2021م شهد نسبة أكبر من التعايش مع فيروس “كورونا”، مع التوسع في تقديم اللقاحات وفتح الحدود، والخروج بوجه عام من دائرة الإغلاق التام تدريجياً؛ فإنه سجل حصيلة وفيات هائلة؛ حيث فقد أكثر من 3.3 مليون شخص حياتهم بسبب “كورونا” في هذا العام، وهذا العدد أكبر من الوفيات الناجمة عن فيروس نقص المناعة البشرية والملاريا والسل مجتمعة، ولا يزال فيروس “كورونا” يودي بحياة حوالي 50 ألف شخص كل أسبوع، ناهيك عن الوفيات التي لم يتم الإبلاغ عنها وملايين الوفيات الزائدة الناجمة عن الاضطرابات في الخدمات الصحية الأساسية (بحسب د. تيدروس أدهانوم جبريسيوس، مدير عام منظمة الصحة العالمية)(1).
مع أعداد الوفيات الضخمة عانت العائلات من الآثار النفسية السلبية كالحزن والاكتئاب
إذا كان عدد الوفيات منذ تم اكتشاف فيروس “كورونا” حول العالم تجاوز عتبة الـ5 ملايين، فإن النصيب الأكبر كان لعام 2021م، ومع هذه الأعداد الضخمة من الوفيات عانت عائلات الضحايا من الآثار النفسية السلبية المتمثلة في مشاعر الفقد والحزن والاكتئاب التي قد تصل حد الصدمة النفسية.
ملايين الوفيات تعني ملايين مضاعفة من الدوائر القريبة التي أنهكتها مشاعر الفقد والألم حد الوصول لدرجة تشبه الصدمة الجماعية التي خلفها -ولا يزال- الوباء، ويبدو النساء والأطفال والمسنون من أكثر الفئات المعرضة لهذه الصدمة النفسية وتبعاتها؛ لذلك كان العام 2021م الأشد وطأة عليهم.
لم تكن ولاء قد أتمت عامها الخامس من الزواج عندما توفي زوجها الطبيب الشاب، صاحب الأخلاق الرائعة، تاركاً لها طفلين صغيرين، وعلى الرغم من مرور ما يقارب العام على وفاته، (ورغم أنها لا تواجه مشكلات مادية؛ لأن زوجها الطبيب ترك لها تعويضاً مالياً جيداً ومعاشاً تأمينياً يغطي مصاريفها والطفلين)، فإنها لا تزال تعاني من الاكتئاب الذي سببه فقدها للزوج الخلوق، ولا تزال تستشعر طعماً مراً في حلقها؛ وهي تتذكر بكثير من المرارة أنها حتى لم تستطع وداعه؛ بعد شهور من عمله المكثف في مستشفيات العزل الخاصة بمرضى “كورونا”، حتى إنها لم تكن تكاد تراه، وفي الساعات القليلة التي كان يزور فيها المنزل كان يعزل نفسه تماماً خوفاً عليها وعلى حياة طفليه، لكنه أصيب في النهاية، وتدهورت حالته سريعاً ليتم عزله في العناية المركزة، وتُمنع ولاء من رؤيته أو وداعه.
مع العمل من المنزل تصاعد العنف المنزلي وارتفعت معدلات الطلاق بسبب الاحتكاك الذي فاقم الخلافات الزوجية
لا تستطيع ولاء أن تنسى أنها لم تتلق العزاء حتى من أقاربها المقربين، أو صديقاتها إلا عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي، رغم أنها لم تصب بالوباء، لكن خشية الناس والصديقات من العدوى منعتهم من تقديم واجب العزاء لها؛ ما ضاعف من شعورها بالصدمة في الأيام التي تلت الوفاة، وكانت تفتقد الدعم العاطفي والنفسي والاجتماعي، فلم تستطع الخروج من دائرة الحزن حتى الآن.
على أن آثار الجائحة كانت أشد قسوة على أم عبدالله، التي توفي زوجها أيضاً متأثراً بإصابته بفيروس “كورونا”، تاركاً لها أربعة من الأبناء، لا يتجاوز أكبرهم العاشرة، دون أي مصدر دخل؛ فهو لم يكن يمتلك عملاً آمناً، كان أبو عبدالله مجرد أجير لا يمتلك معاش ضمان اجتماعي، وتبدو حياة أم عبدالله بالغة المشقة بين البحث عن فرصة عمل لها وتربية الأبناء الأربعة، في ظل حالة الركود الاقتصادي، خاصة أنها لم يسبق لها النزول لسوق العمل، يقدم بعض أهل الخير الدعم لأم عبدالله لكنه لا يكفي الحد الأدنى للحياة من إيجار وطعام.
وقد أصيبت أم عبدالله بحالة من التوتر والعصبية الشديدة مترافقة مع قلة النوم حتى إنها يضيق صدرها، وتصاب بحالة من الهياج والصراخ في مقابل أي خطأ بسيط يقوم به الأبناء.
نحو 275 مليون شخص حول العالم تعاطوا المخدرات وتوفي أكثر من 100 ألف أمريكي جراء جرعة زائدة منها
أما هدى فهي تفكر جدياً في الطلاق بعد أن سارت العلاقة مع زوجها في مسار خطر؛ فقد تم الاستغناء عنه من العمل، وأصبح يقضي وقته كله بالبيت، ورغم أنه يمتلك بعض المدخرات، فإن حالته النفسية ساءت كثيراً بسبب البطالة؛ فأصبح يتابع كل تفاصيل المنزل، موجهاً لها النقد اللاذع عند أقل هفوة، إلا أن ما جعلها تفكر جدياً في الطلاق أنه صفعها أكثر من مرة مؤخراً، عندما تصاعدت المشاجرات والمشاحنات بينهما.
مجرد حكايات
كانت هذه النماذج الثلاثة مجرد حكايات لنساء أمضين عام 2021م في ظل جائحة “كورونا”، تمثل كل واحدة منهن آلاف النساء؛ فبينما كان الزوجان (في القصة الأولى والثانية) اللذان توفيا مجرد رقمين في إحصائية؛ إلا أن ما خلفاه يمثل مشكلة تكاد تصل للمأساة؛ فنحن عندما نتحدث بلغة الأرقام لا نستشعر أن وراء كل رقم قصة قد تكون مؤلمة أو مفزعة حتى نرى بعض تفاصيل حياتها.
أما الزوج الثالث الذي فقد عمله فهو مشكلة لا يكاد يلتفت لها أحد تحت مطرقة الوفيات والإصابات، واللقاحات والعلاجات.
المسنون من أكثر الفئات التي تضررت من العزل إضافة للأزمات الاقتصادية التي نتجت عنه
فمع اختيار الكثيرين العمل من المنزل؛ تصاعدت وتيرة العنف المنزلي، وارتفعت معدلات الطلاق؛ نتيجة الاحتكاك الذي فاقم الخلافات الزوجية (التي كانت موجودة من قبل بشكل مستتر)، أما من تواجد في المنزل بسبب فقدان عمله؛ فكانت النتيجة أكثر سوءاً، حتى إن تقارير تشير إلى أن تفشي الوباء والإغلاق في الهند كان أحد عوامل انتحار النساء هناك (تشكل النساء الهنديات 36% من جميع حالات الانتحار العالمية في الفئة العمرية من 15 إلى 39 عاماً)؛ لأنهن فقدن القدرة على التواصل وبث الشكوى، ومن ثم تلقي بعض الدعم من بعضهن بعضاً، بينما ازدادت وتيرة العنف المنزلي بسبب بطالة الرجال وبقائهم في المنزل.
لقد ترك الوباء بصماته على كافة شرائح المجتمع، ومشاعر القلق والتوتر والإحباط عوامل إضافية أدت لارتفاع وتيرة إدمان المخدرات؛ فلقد تعاطى المخدرات نحو 275 مليون شخص حول العالم، بينما عانى 36 مليوناً آخرين من مضاعفات تعاطيها، وتوفي أكثر من 100 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها جراء تعاطي جرعة زائدة (وفقاً لتقرير المخدرات العالمي الذي نشره مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة)(2).
وقال التقرير الذي نشر في فيينا: إن دولاً كثيرة شهدت ارتفاعاً في نسب تعاطي الحشيش المخدر (القنب) خلال جائحة “كورونا”، كما لوحظت أيضاً زيادة في تعاطي العقاقير الطبية المخدرة لغير أغراض العلاج.
وتبدو آثار الوباء أيضاً بشكل غير مباشر على انتكاسة بعض المتعافين من الإدمان؛ حيث أدت الإجراءات الاحترازية لتراجع مجموعات الدعم النفسي الموجهة لهم، ومن ثم ارتفاع معدلات الانتكاسة، يضاف لذلك أن الوباء أدى لإنهاك المنظومة الصحية لدى الكثير من الدول بما أثر بالسلب بالرعاية الموجهة لمكافحة المخدرات.
ومن الفئات التي تضررت من الوباء بشدة فئة المسنين؛ فإضافة إلى أنهم من الفئات الأكثر عرضة للإصابة المباشرة بالفعل بما تحمله من معانٍ إضافية للعجز، فهم من أكثر الفئات التي تضررت من العزل والتباعد الاجتماعي؛ حيث يعيش الكثير منهم في شبه وحدة سواء في بيوت خاصة، أم في دور المسنين، وبافتقادهم للأجواء الاجتماعية من زيارات وتواصل؛ ارتفعت لدى كثير منهم مشاعر الأسى حد الوصول للاكتئاب، خاصة أن الكثيرين منهم لا يجيدون التعامل مع شبكة الإنترنت، ولا مواقع التواصل الاجتماعي (التي لا تغني أبداً عن حميمية اللقاءات المباشرة).
ومن المشكلات التي واجهها المسنون أيضاً المشكلات الاقتصادية؛ فمزيد من المطهرات والأدوية والمكملات الغذائية تعني مزيداً من النفقات، وإذا كان المسن يعتمد على أبنائه الذين يعانون بدورهم من مشكلات اقتصادية حقيقية؛ فإن الراتب المخصص للآباء المسنين قد يتقلص.
وبعض المسنين ممن يتلقى معاشاً تقاعدياً اشتكوا إساءة معاملة الأبناء؛ بهدف الحصول على جزء من هذا المعاش؛ نظراً أيضاً للظروف الاقتصادية التي حملت أكثر من وجه.
ولا أحد يعلم على وجه اليقين مسارات فيروس “كورونا” في عام 2022م، وهل تسير الأمور لاستيطان الفيروس واستئناف الحياة العادية، أم أن هناك المزيد من التدهور ومن ثم يعود سيناريو الحجر والإغلاق، إلا أن الشيء اليقيني أنه بقدر العمق الإيماني للفرد وللجماعات، تمتلك الذات الفردية والجماعية القدرة على الصمود في مواجهة الجائحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ