أربك الغزو الروسي لأوكرانيا حسابات الكيان الصهيوني، وأثر على نمط سياساته على الصُّعد الإقليمية والدولية، وأوجد تحديات جديدة تقلص من قدرته على تحقيق مصالحه الإستراتيجية.
يتمثل المأزق الصهيوني في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في حقيقة أن لديه مصالح كبيرة ومعمقة مع طرفي الصراع (روسيا من جهة، والولايات المتحدة والغرب بشكل عام الذي يدعم أوكرانيا)؛ ما يعني أن تبنيه موقفاً إزاء الصراع سيقود إلى المس بهذه المصالح.
من هنا، فإن «إسرائيل» تناور بشكل خطر بين الولايات المتحدة (المعنية بأن تنضم إلى التنديد العلني والواضح بغزو أوكرانيا وتسهم في تعزيز نظام العقوبات المفروض على روسيا)، وروسيا التي تبدي حساسية كبيرة تجاه أي دولة تتبنى الموقف الغربي من غزو أوكرانيا.
وفي محاولاتها النجاح في هذه المهمة، عمدت «تل أبيب» إلى فعل الشيء وضده؛ فمن ناحية رفضت التوقيع على مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن للتنديد بالغزو الروسي، لكنها بعد ذلك دعمت قرار الجمعية العامة في الأمم المتحدة المندد بالغزو، وبغض النظر عن الموقف الذي سيتخذه الصهاينة، فإنه يمكن القول: إن هناك جملة من الخسائر التي يحتمل أن تتعرض لها «إسرائيل» في أعقاب الغزو الروسي مقابل عدد من المكاسب أيضاً.
خسائر صهيونية متوقعة
أولاً: حسَّن الغزو الروسي لأوكرانيا فرص توصل القوى العظمى وإيران لاتفاق نووي جديد، تراه «إسرائيل» أكثر خطورة من الاتفاق الأصلي الذي وقع في عام 2015م، ففرض الغرب العقوبات غير المسبوقة على روسيا سيدفعها إلى مناكفة الولايات المتحدة عبر دعم الموقف الإيراني في مفاوضات فيينا النووية، في الوقت ذاته؛ فإن أزمة الطاقة التي يعاني منها العالم في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا ستشجع الأمريكيين على إبداء مرونة تفضي إلى التوصل للاتفاق النووي مع إيران، ومن الواضح أن العودة للاتفاق سيمنح إيران عوائد مالية ضخمة ويحسن قدرتها على الحضور في المنطقة بشكل لا يلائم المصالح الصهيونية.
ثانياً: مع تعاظم فرص اندلاع هبة جماهيرية فلسطينية في الضفة الغربية أو القدس، وفي حال شن الكيان الصهيوني حرباً جديدة على قطاع غزة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن ذلك سيزيد التحديات أمام الكيان الصهيوني، فالغرب والولايات المتحدة سيشعران بالحرج إزاء القمع الصهيوني في الضفة الغربية والقدس وبعد مشاهد الجرائم المروعة التي ترتكبها «إسرائيل» في غزة؛ بحيث يقلص الإجرام الصهيوني هامش المناورة أمامهما؛ على اعتبار أنه سيتم فضح ازدواجية معايير الغرب الذي ينتقد إجرام روسيا ويتجند للدفاع عن الإجرام الصهيوني؛ من هنا، فإنه يتوقع على نطاق واسع أن تضطر أوروبا -وإلى حد ما الولايات المتحدة- إلى توجيه انتقادات أكثر وضوحاً وصراحة لـ«إسرائيل».
ثالثاً: المطالبات الغربية الواسعة بمحاكمة القادة الروس وتحديداً الرئيس «فلاديمير بوتين» بتهم ارتكابهم جرائم حرب أمام محكمة الجنايات الدولية تزعج الكيان الصهيوني كثيراً، على اعتبار أن هذا الكيان يواجه أكبر عدد من الدعاوى بارتكاب جرائم حرب بسبب الفظائع التي ارتكبها في حروب غزة وبسبب مشروعه الاستيطاني في الضفة الغربية؛ وبالتالي، فاتهام روسيا بجرائم الحرب يعزز من فرص إدانة «إسرائيل» بها؛ لذا لم يكن صدفة أن يهاجم وزير القضاء الصهيوني «جدعون ساعر» بشدة النخب «الإسرائيلية» التي اتهمت «بوتين» بارتكاب جرائم حرب؛ حيث حذر من أن هذه التهم تمثل خطراً على مصالح «تل أبيب».
رابعاً: فرض الغرب عقوباته على روسيا في أعقاب غزو أوكرانيا يضفي شرعية على مطالبة حركة المقاطعة الدولية (BDS) بفرض عقوبات على «إسرائيل»؛ بسبب احتلالها الأراضي الفلسطينية وجرائمها فيها؛ مما سيقلص من معقولية الذرائع التي تستند إليها الدول الأوروبية والولايات المتحدة في محاربة حركة المقاطعة وحظر أنشطتها.
خامساً: يمكن أن يفضي الغزو الروسي لأوكرانيا إلى حدوث تحولات على طابع التوازنات التي تحكم النظام العالمي، بشكل يقلص من هيمنة الولايات المتحدة؛ وهذا يمكن أن يؤسس لصعود قوى عالمية وإقليمية في هذا النظام، بحيث تصبح أكثر تأثيراً على الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، وهذا سيقلص من قيمة المظلة الدولية التي تمنحها الولايات المتحدة لـ«إسرائيل» التي تمكنها من مواصلة التشبث بمواقفها المتطرفة من الصراع.
سادساً: في حال تواصل الصراع في أوكرانيا، فإن قدرة «إسرائيل» على الحفاظ على الحياد ستكون محدودة إلى حد كبير، وستكون مضطرة إلى التماثل أكثر مع الموقف الغربي والأمريكي بسبب حاجتها الهائلة للدعم الأمريكي على كل الصعد؛ وعليه، فإن الرد الروسي على السلوك الصهيوني لن يتأخر، وقد يتمثل في تقليص قدرتها على مواصلة العمل عسكرياً ضد إيران في سورية؛ سيما وأن روسيا تمتلك منظومات دفاع جوي متقدمة على الأراضي السورية، ويمكن أن تحرّض روسيا إيران والجماعات التابعة لها على استهداف «إسرائيل» انطلاقاً من سورية وغيرها؛ بهدف خلط الأوضاع وزيادة الضغوط على الولايات المتحدة.
سابعاً: لأول وهلة يبدو أن الغزو الروسي يحسّن من قدرة «إسرائيل» على تعزيز مسار التطبيع بينها وبين الدول العربية في المنطقة، ونقله إلى مرحلة التحالف المباشر ضد إيران؛ سيما في ظل مظاهر تقليص الولايات المتحدة وجودها في المنطقة، لكن «إسرائيل» تعي في المقابل أن قيمة هذا التحالف ستكون متدنية جداً، تحديداً إذا عززت روسيا علاقتها مع إيران؛ حيث إن قيمة كلفة هذا التحالف ستكون كبيرة.
ثامناً: يمكن أن يسهم الغزو الروسي لأوكرانيا في تدهور الأوضاع الاقتصادية بدول عربية ترتبط نظم الحكم فيها بشراكات إستراتيجية مع «إسرائيل» سيما مصر؛ بشكل يمكن أن يؤثر على استقرار هذه الأنظمة، وإذا تحقق هذا السيناريو فسينطوي على مخاطر إستراتيجية هائلة على الكيان الصهيوني، وسيفاقم الأعباء الأمنية والعسكرية والاقتصادية عليه.
المكاسب
وفي المقابل، فإن «تل أبيب» يمكن أن تحوز على مكاسب من الغزو الروسي لأوكرانيا، ويمكن الإشارة إلى مكسبين رئيسين، وهما:
أولاً: عبرت بعض الدول الأوروبية بشكل صريح عن مخاوفها أن يواصل «بوتين» احتلال المزيد من دول القارة؛ ما دفع هذه الدول إلى وضع خطط لتحديث ترساناتها العسكرية وجعلها معنية بشكل خاص بالحصول على منظومات دفاع جوية وسيبرانية وعتاد متطور؛ ما سيفتح المجال أمام شركات السلاح الصهيونية أسواقاً واعدة، وهذا سيعزز من القدرات الاقتصادية للكيان الصهيوني، وسيزيد من قيمته الإستراتيجية بالنسبة لأوروبا.
ثانياً: فتح الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات التي فرضت على روسيا المجال بشكل غير مسبوق لدفع عشرات الآلاف من اليهود الأوكران والروس للهجرة إلى «إسرائيل» هرباً من الحرب والعقوبات، وهذا يمثل مكسباً إستراتيجيا كبيراً؛ حيث إن المسؤولين الصهاينة جاهروا بأنهم سيوظفون المهاجرين اليهود في تهويد الأرض الفلسطينية، سواء الجليل والنقب أو الضفة الغربية.
قصارى القول: الغزو الروسي يمهد المجال أمام صعود مخاطر على «إسرائيل»، كما يوفر لها فرصاً للاستفادة من تبعاته.