رحل فضيلة الشيخ الجليل أحمد القطان المعروف بـ«خطيب منبر الدفاع عن المسجد الأقصى»، بعد حياة حافلة مليئة بالعطاء الدعوي، كان بوصلته فيها الدفاع عن الإسلام والمسلمين، والتوعية بالشرع والقيم والأخلاق، ورغم أن رحيله آلم محبيه في مشارق الأرض ومغاربها، فإنه بالطبع كان أكثر إيلاماً في القريبين منه.
الداعية الإسلامية والمستشارة النفسية د. حنان أحمد القطان، ابنة شيخنا الراحل، واحدة من هؤلاء، الذين ذابت قلوبهم انفطاراً على رحيل هذه الأيقونة المضيئة في حياة أبناء الكويت والعرب والإسلام، التي فتحت قلبها في حوار لـ«المجتمع»، لتتحدث عن يوميات أسرية تكشف فيها عن قرب مآثر اجتماعية للشيخ الراحل؛ لنشاهد كيف كان التناغم بين سلوكه خارج البيت وداخله كقدوة منيرة في كل مكان.
ولم يخلُ الحوار من بعض الأبعاد الأخرى، حيث كشفت د. حنان القطان عن أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أصدر قراراً باغتيال والدها لكنه فشل، كما تطرقت إلى دوره العظيم في مساندة المسجد الأقصى، وملامح دوره السياسي المميز في توحيد صفوف الأمة ومساندة الكويت أثناء الغزو والاحتلال.
أولاً، عظَّم الله أجركم ورحم والدكم وأسكنه فسيح جناته، واسمحي لنا في البداية بهذا السؤال: ما نقطة البداية وكلمة السر في حياة الوالد الراحل؟
– كلمة البداية دوماً كانت صلاة الفجر؛ فكان يومه -رحمة الله عليه- يبدأ من صلاة الفجر، ثم يوقظنا ونحن صغار للصلاة، وكان يلاعبنا ويذكرنا بالله والاستعاذة به سبحانه من الشيطان حتى نقوم للصلاة، وكان حريصاً على تحبيبنا في صلاة الفجر، ويتعجب من نوم الناس، ويقول: كيف للناس أن يلتمسوا البركة وهم نائمون؟
وكان حريصاً بعد صلاة الفجر على قراءة القرآن، كما كان يذهب في غير أيام الارتباطات لتناول فطوره مع والدته.
كان يحرص على توصيلنا لمدارسنا بنفسه رغم مرضه ونسميها رحلة المدرسة والجامع
ماذا تحمل ذاكرة الطفولة لكم للشيخ الراحل؟
– رحلة المدرسة بالطبع، وكانت من الأمور العجيبة، التي كان يحرص عليها الوالد؛ فكان عددنا، ما شاء الله: 10 بنات، و4 أبناء، وكان حريصاً على توصيلنا للمدارس والجامعة، وحتى وهو في شيبته كان يوصل آخر بناته للجامعة مهما كان تعبه، وما كان يحب أن يوصلنا سائق، وكنا نسمي هذه الرحلة رحلة «السيارة والجامع»، وكانت مليئة بالمرح والفائدة، ونقول الأذكار سوياً، ونغني الأناشيد، وينشدنا في السيارة دائماً، وهناك أنشودة عن «الحمامة» مليئة بالتحفيز للبكور، ويذكرنا بأهمية ترك أثر طيب في يومنا الدراسي، والالتزام بحسن الأخلاق، وفي رحلة العودة من المدراس يكون متواجداً هو كذلك، وقد تأثرت عندما وجدت كتاباً من كتبه بعد رحيله، وقد دون عليه مواعيد خروج أبنائه المتنوعة من بعد الظهيرة، ولكن كان حريصاً عليها في وقتها، ويستغل أوقات الانتظار في القراءة، ونلاحظ دائماً الكتاب في يديه بوقت الانتظار حتى وصولنا.
ماذا عن أهم المواقف الأسرية المحببة للأسرة في يومياتها مع الشيخ الراحل؟
– «الغداء الجماعي» من أهم هذه المواقف ولا ننساها، فقد كان الوالد يحرص على أن نتجمع على الغداء سوياً، فهذا الغداء الجماعي فرض عين، لا يتغيب عنه أحد مدى الحياة حتى تزوجنا وخرجنا إلى بيوت الأزواج، وكانت بدايته دائماً بالبسملة ثم التعليق الجميل على الطعام، فإذا كان الطعام من الأسماك يذكرنا بعجيب خلق الله وصنعه، وكيف أنها كانت في البحر بالأمس واليوم على مائدة الطعام، رزق من الله تعالى، كي نتقوى في هذه الحياة، ثم يحمد الله ويطلبنا بالدعاء لإخواننا في أفريقيا الذين يعانون من المجاعات، ثم ننتهي ونحن في قمة السعادة والحمد، لنترك الوالد في راحة الظهيرة وسط هدوء، لينطلق وقت العصر للصلاة ثم إلى اجتماعاته ومقابلاته وتفريج كربات المسلمين وأعمال الدعوة، ولكنه كان حريصاً بعد العشاء على خروجنا في الصيف للبحر، وفي الشتاء للبر، حتى في أوقات الامتحانات، كان يقول لنا: «هيا لنقضِ بعض الوقت»؛ حرصاً منه على رفع ضغوطات الحياة عنا.
ماذا عن الشيخ في دائرة الأقارب، كيف كان؟
– كانت علاقة والدي، يرحمه الله، بأعمامي علاقة وطيدة وثيقة لا تنفك، فهم تربوا على ذلك في «بيت الحب»، كما نسميه، فهم لم يأخذوا من الدنيا مناصب، ولا أرصدة، ولكنهم أخذوا منها الترابط والقلب السليم، وهذا ما نجده غالباً عن أهل التجارة والمناصب، فهم مشغولون دائماً بتجارتهم ومناصبهم ومشكلاتها، فهم يومياً يجب أن يزوروا والدتهم، وبعد وفاتها لا بد أن يجتمعوا، وكانت أسفار بعضهم تسبب لهم ضغطاً، حتى أصيب بمرض الضغط في فترة الغزو، بسبب خوفه على البلاد وحمله قضية الكويت، وبعد أسْر بعض أعمامي وأقاربنا.
نتوقف هنا قليلاً، هل صحيح أن الشيخ القطان كان مهدداً بالاغتيال أثناء الغزو؟
– نعم بالفعل، منذ أن بدأ الغزو، وكانت القوات العراقية المعتدية تبحث عن أبي لاغتياله، وكانوا يأتون إلى بيتنا مراراً ولكنه نجا، فقد كان هناك قرار من «صدام حسين» نفسه بتصفيته، حتى قبل الغزو، عندما وقف الوالد ضد النظام البعثي المجرم وقت إبادته للأكراد، ولذلك كانت هناك أكثر من محاولة اغتيال له.
نعود لرعاية الأبناء، وهذا الجزء المهم من يوميات شيخنا الراحل، لو تحدثينا عن ذلك.
– الرعاية يقدر عليها الجميع، حتى الخادمة المؤجرة، ولكن الوالد كان مربياً فاضلاً لنا جميعاً، يتعايش معنا، وهو روح لنا وحياة ونفس لأبنائه، وكل مشهد في حياتنا الأسرية كان فيه ذكرى طيبة من الوالد وكلمة جميلة منه، حتى أقول لكم: حتى النملة بأرض بيتنا، كلنا عندما نبصرها نتذكر حديث الوالد عنها والقيم التربوية التي ذكرها لنا من حياة النمل، وما زالت كلماته تنبض في حياتنا.
كيف كان الوالد، إذن، يستطيع التوفيق بين حياته العملية والأسرية؟
– إنها البركة، ومن أراد أن يرى البركة على وجه الأرض ولمحة من ملامحها فعليه مشاهدة الشيخ أحمد القطان، يرحمه الله، فعلاً كانت البركة في حياته معلماً رئيساً، كان الله يبارك له في وقته وماله وعياله وحياته، كان معاشه قليلاً ولكنه صنع الكثير، من أول يوم نزول راتبه، كان يصرفه على بيته والفقراء، ولا يُبقي شيئاً له كرصيد أو توفير، ويراعي الأوقات، حتى أطلقت عليه «أبو الدقيقة الواحدة»؛ فكان يجلس مع الجميع ويترك أثراً طيباً فيهم بأقل وقت ممكن، حتى العصفور الصغير في البيت يلاعبه ويقول: «إنه روح وله علينا حق»!
ومع ذلك، كان لا يترك في قلبه شيئاً سيئاً تجاه مسلم، ويغفر ويسامح ولا يغضب إلا لله عز وجل، ويرضى بالقليل، ويركز وقته في دعوته وبيته.
نلاحظ مدى القرب بينكم وبين والدكم الراحل؛ فما السر في هذا؟
– نعم، كانت بيننا علاقة روحية كبيرة، حتى إنني شعرت بعد وفاته بأن جزءاً من روحي قد ذهب، وأشعر بأني مرتبطة به أكثر من أي أحد آخر؛ فكنت أشعر به وأقرأ حاله من وجهه؛ لذلك كان ربي يوفقني كثيراً في حواراتي معه، ولذلك حتى في العائلة كانوا يقولون: «ما يقدر عليه غير حنان»، فقد كنت دوماً أعرف مفاتيح قلبه، خاصة في المسار العلاجي، وحتى تطعيم «كورونا» مكثت خلفه حتى أقنعته بضرورة أخذه، وبنفس درجة القوة في العلاقة الروحية لديَّ ارتباط فكري وثيق بوالدي، يرحمه الله، وقد علمني الوسطية والاعتدال، وكثير من كوارث الأمة التي كانت تعصفي بي، ومنها مذبحتا الغوطة في سورية ورابعة بمصر، وجدته يدخل عليَّ غرفتي وأنا حطام ليذكرني بالله عز وجل وعدله وحكمته، ويذكرني بالآيات التي تنزل عليَّ برداً وسلاماً.
وكان يشجعني حتى في أول برنامج لي على قناة “اقرأ”، وهو “لمن كان له قلب”، الذي بذلت فيه جهداً كبيراً على مدار 3 شهور، وكان في بيت أختي، ولم أتقاضَ عليه أجراً، فأصابني إحباط شديد من ذلك، فجاء إليَّ داعماً، ومسانداً، وقال: “يا ابنتي، لو دعوني لروضة أطفال لذهبت، عسى أن تقع كلمة في صدر طفل تغير شيئاً، فاصبري وواصلي ولا تتركي أبواب الخير التي يفتحها الله لكِ”.
ماذا عن إخوتك وأخواتك وتأثرهم بالشيخ، رحمه الله؟
– كلنا، والحمد لله تعالى، على نهجه، فعبدالله داعية لله في جماعة التبليغ والإرشاد، وأختي جنان مديرة للقرآن الكريم، وأختي عروب دكتورة في التربية، وأسست معي مركز «التزام» للاستشارات النفسية والتدريب، وهي أيضاً شاعرة، وأختي بنان داعمة لنا في كل مشاريعنا، وأختي إيمان اختصاصية نفسية، وهي زوجة يوسف المطوع، ابن العالم الجليل الراحل عبدالله علي المطوع، يرحمه الله، وأخي عبدالرحمن، وكذلك محمد، على صلاح كبير، ولا نزكيهما على الله، وهما داعمان ومحبان لأهل الدعوة، وجميع أخواتي من زوجة أبي وربائب أبي داعمون ومحبون لأهل الدعوة والعلم.
ولعل أخي عبدالله القطان هو المرشح لحمل راية الوالد من بعده، فهو داعية فعَّال، وكان دائماً بحضرة الشيخ مستمعاً جيداً فقط، واليوم رأيته يتكلم معنا كأن أبي موجود، فأدركت أن صمته كان وقاراً واحتراماً للشيخ، واليوم هو يسد مكانه، جزاه الله خيراً.
ما آثار هذه الروح الأسرية على الأبناء الأحفاد؟
– لقد ترك الوالد، يرحمه الله، أثراً طيباً واضحاً على الأبناء والأحفاد؛ فهو لم يترك دقيقة دون أن يربطنا بالله عز وجل، ويلعب معنا ومعهم، ويدخل جو المرح والعلم والقرب إلى الله في كل أوصال الأسرة؛ فقد كان مدرسة بحق.
ما رأيت مثل بره بأمه فكان يحبو على رجله حتى يذكرها بأنه ابنها ليقبّل رجلها
ما أهم صفة تلفت نظركم في الشيخ الراحل؟
– البر؛ فقد كان نعم الابن البار، ما رأيت مثل بره بأمه، حتى كان يحبو على رجله حتى يذكرها بأنه ابنها، ليقبِّل رجلها.
كيف ترين علاقة الشيخ القطان بالمسجد الأقصى؟
– علاقته بالمسجد الأقصى بدأت منذ بدايات دعوته حتى مماته، وقد كان آخر درس له قبل دخوله المستشفى عن المسجد الأقصى؛ فكان يردد: «لا صلح لا تفريط لا تقسيم في أرض الجدود.. لا للدويلة رشوة وثمناً لآهات الشهيد»، وأوقفوا الدرس عندما بدأ التعب عليه، ثم غادر إلى المستشفى، وكانت هذه آخر كلماته.
وغرس الشيخ القطان القضية من خلال سلاح الأنشودة؛ فهو يعلم أن الأنشودة أداة مهمة لبرمجة العقول، وكنا يومياً ننشد في السيارة والمخيمات أناشيد المسجد الأقصى، وكذلك غرسها من خلال التبرعات والفعاليات، وبالطبع في الخطب على المنابر.
ولقد اختار هذه القضية ليحيي بها وحدة الأمة، وسمى منبره “منبر الدفاع عن المسجد الأقصى”.
اختار القضية الفلسطينية ليحيي بها وحدة الأمة وسمى منبره «منبر الدفاع عن المسجد الأقصى»
لقد كان للشيخ الراحل عطاء كبير سواء في زمن «الكاسيت» أو الكتب، كيف تحافظون عليه؟
– بفضل الله تعالى، كان عطاء الشيخ كبيراً، وللأسف بعض الذباب الإلكتروني كتب أن الشيخ القطان كان «تاجر كاسيت»! بسبب هذا الكم الكبير من الأشرطة في السبعينيات والثمانينيات، والذي كان بعضه دعماً للمسجد الأقصى، وقد وصلني هذا الكلام من بعض المجموعات الصديقة، وقلت لهم: إن الوالد كان فعلاً تاجراً، لكنه كان تاجراً مع الله، وقد كسب الملايين بل المليارات ولكن من الله عز وجل؛ فكل إنتاجه الصوتي من «الكاسيت» كان وقفاً لله تعالى، وكل دور النشر تعلم ذلك، وكانت سعادته كبيرة وسعادتنا عندما يقابلنا أحد ويقول: اهتديت على شريط لك يا شيخ.
ولديه العديد من الكتب، منها “الداعية الناجح”، و«البيان» الذي يخص الحياة الزوجية، ولديه أكثر من مجموعة وقد جمعت بعضها.
وأسسنا للشيخ موقعاً إلكترونياً ضم كل إنتاجه وخطبه ومحاضراته، وكان حريصاً على الدعوة حتى آخر يوم في حياته، ولما تعب اقتصر نشاطه على الكويت، ولكن امتد أثره عبر «زووم» وغيرها من أدوات التواصل لتوصيل رسالته.
وقد كان له في كتبه بعض العبارات والقصاصات التي كان يحرص فيها على التذكير بالله تعالى، وقد أثر بعضها فيَّ كثيراً بعدما وجدتها عقب وفاته، ومنها دعوته لله أن يميته على «لا إله إلا الله».
ماذا عن النشاط السياسي للشيخ القطان؟
– كان للوالد أدوار عديدة في هذا المسار، ومنها دوره في تحويل موقف الجزائر إلى مساندة الكويت أثناء الغزو، وكذلك مواقفه المستمرة في توحيد الأمة الإسلامية في شتى الحروب الأهلية، مثل لبنان وأفغانستان.
في الختام، الشيخ أحمد القطان في كلمة واحدة، ماذا تقولين؟
– سؤال صعب، ولكن من الممكن أن أقول فيه: إنه «الحياة»، يقول تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) (الأنعام: 122).
أعده للنشر: حسن القباني