إنّ فِراقَ شيخنا أحمد القطان له لوعة باقية، وحزازة مريرة، وأسىً لا يُدفَع؛ إذ لنا معه نسب العلم والأخوة والتربية والأدب والفضل ما يصعب وفاؤه، ولكن حسبي إشارات أشارككم فيها، أشهد بها على فضل شيخنا خلال حياته الثرية وسيرته الزكية.
بداية توطد علاقتنا
في أواخر السبعينيات، خطب فضيلة الشيخ أحمد القطان، يرحمه الله تعالى، في منطقة الرقة (ق3) خطبة إيمانية رائعة عنوانها “أفراح المؤمن”، حيث تأثر الناس بها، وتركت أثراً جميلاً فيهم، عندها فاتحت الشيخ أحمد برغبتي في الخطابة، فأبدى استعداده لمساعدتي وتوجيهي واتفقنا حينها معه، على أن نعقد لقاءات ودروساً لتعلم الخطابة، فكنا نلتقي في مكتبة جمعية الإصلاح الاجتماعي، حيث بيَّن لي ضرورة حفظ وتأمل الآيات التي تمس موضوع الخطبة، وأن تؤدى بطريقة صحيحة مؤثرة، وأثار إعجابي بتأملاته وفهمه للآيات، واستخراج المعاني منها.
وقد توطدت علاقتي بالشيخ أحمد بعد ذلك، فكنت أذهب إليه في مدرسة المأمون، ومدرسة عبدالله بن رواحة -حيث يعمل- وأتلقى منه مقدمات الخطب وأحفظها جيداً، ثم أصبحت خطيباً، فكنت أستفيد منها ومن بقية توجيهاته في خطبي، وتوسعت اللقاءات بعد ذلك، فانضم إلينا كل من فضيلة الشيخ نادر النوري، يرحمه الله، ود. نجيب الرفاعي، وبعض الإخوة، فكنا نتدارس فنون الخطابة والبلاغة مع شيخنا القطان، وكنا نتدارس معه كتاب “جواهر الأدب” للهاشمي، وكان الشيخ يقرأ لنا بعض الخطب ويحللها ويستخرج منها مواطن التميز والتأثير، ويعلمنا الأساليب الخطابية كالوصف وغيره، من خلال الخطب والأشعار والنصوص الأدبية التي يعج بها الكتاب.
رحلة فرنسا:
في عام 1989م، سافرت مع الشيخ إلى فرنسا، ونزلنا في باريس لحضور مؤتمر طلابي جماهيري، عربي وإسلامي، تُطرح فيه قضايا المسلمين، وتُجمع فيه التبرعات، فكان نعم الصاحب في السفر، وقد بلغنا ونحن في المؤتمر أن هناك توجهاً من حاكم لبلد ينتمي إليها كثير من الطلاب لمنع الحجاب، فما كان من الشيخ، يرحمه الله، إلا أن تصدى لهذا الأمر بقوة خطابه وبلاغته المعهودة، ولكن دون ذكر للدولة ولا للحاكم، وفهم الناس المراد، وتفاعلوا بالتكبير والتهليل.
وكان من المقرر أن يخطب الشيخ الجمعة في جامع باريس، فذهبنا معاً بالسيارة، وكان الطريق مزدحماً، والسيارات لا تكاد تتحرك، فما كان من الشيخ إلا أن طلب أن ينزل كي نذهب مشياً إلى المسجد، رغم بُعد المسافة! وأخذ الشيخ يهرول، وأنا معه وقد أدركني التعب حتى تورمت رجلي، وكان يعلق مازحاً على تعبي، باعتبار أنه أكبر مني سنّاً! ثم ركبنا قطاراً تحت الأرض، وأكملنا الهرولة، فوصلنا المسجد وقد صلى الناس الجمعة، فتقدم الشيخ القطان الصفوف، وألقى كلمته بعد الصلاة، وكانت عن قضية فلسطين والمسجد الأقصى المبارك، وقد هزت وجدان الحاضرين، كان هذا الموضوع يستحوذ على النصيب الأكبر من اهتمامه وتفكيره، رحمه الله تعالى.
محاولة اغتياله:
في رمضان يزدحم برنامج الشيخ القطان بالمحاضرات، فكان يتنقل في جميع محافظات الكويت، ولا يرد دعوة لمحاضرة رمضانية، واعتاد الشيخ على الحج والعمرة كل سنة، ويكاد يكون من أكثر الناس حجاً وعمرة، كما عُرف بذهابه إلى أبها في رحلات صيفية، وكان يتكفل هو شخصياً بالطبخ المتميز، وكان يتوافد الناس في الحج عليه من دول العالم للسلام عليه، وطلب الدعاء منه، وشكره على الاهتمام بقضايا المسلمين.
وفي عام 1982م، خطب الشيخ القطان عن مجازر طاغية الشام في حماة، وضمّن الخطبة قصيدة كتبها بنفسه بعنوان “تبّاً جدار الصامتين”، فهزت هذه الخطبة العالم الإسلامي، وذاع صيتها وانتشرت، وربما كانت من أقوى خطبه، وبعد هذه الخطبة، ذهبتُ شخصيّاً لمقابلة فضيلة الشيخ العلاّمة عبدالعزيز بن باز، يرحمه الله تعالى، وحدثته عن الأوضاع في سورية، فوجدت الشيخ ابن باز حزيناً متأثراً، وقال: “لقد سمعت خطبة الشيخ أحمد القطان..”، ثم أوصى بضرورة مساعدة أهل سورية بالزكاة والصدقات، وبعد مدة من تلك الخطبة، أرسل النظام السوري الفاشل أحد زبانيته لمحاولة اغتيال الشيخ القطان، ولكن الله تعالى سلّم ونجَّى الشيخ، وردّهم خائبين!
براعة الأداء:
كان أبناؤنا وإخواننا الدارسون والمبتعثون خارج الكويت ينتظرون زيارة الشيخ أحمد القطان السنوية لهم، مذكراً وموجهاً، وأخاً وصديقاً، ولقاءات الشيخ معهم كانت لا تخلو من روح المرح والدعابة، ولا يزال الأبناء إلى الآن يتذكرون قصيدة “صوت صفير البلبل” للأصمعي، وأداء الشيخ القطان بإلقاء تمثيلي، وأداء تصويري، جمع البلاغة والبيان، وبراعة الأداء، وفن الإلقاء، وكأنك ترى الأصمعي ومن معه رأي العين.
دفاعه عن وطنه:
أثبت الشيخ القطان، يرحمه الله، حبه لوطنه، واحترامه وولائه لقيادته، خلال دعوته بشكل عام، وخطبه بشكل خاص، حيث كان يدعو للأمن للبلد، والصلاح للولد، والعافية للجسد، وكان يكرر معنى الحب للجميع، مستهلاً أحادثه: “إني أحبكم في الله”.
وعندما تعرضت الكويت للغزو العراقي الغاشم، كان شيخنا القطان يتنقل بين تجمعات المواطنين الكويتيين في الخارج، مهدئاً ومثبتاً، يرفع معنوياتهم، ويمسح أحزانهم، ويؤملهم بالعودة الميمونة إلى أرض الوطن، وقد انضم الشيخ القطان إلى الوفود الرسمية والشعبية خلال فترة الغزو، التي تنقلت بين الدول وعواصم العالم، لشرح عدالة قضية الكويت، وحق المواطنين الكويتيين في العودة إلى بلادهم، محررة عزيزة آمنة.
وقد رأينا ولمسنا مكانة الشيخ القطان في حياته، وخلال مرضه، وبعد وفاته في قلوب محبيه من مختلف دول العالم، تاركاً الأثر الطيب في قلوب الجميع، الصغار والكبار، ولعل ذلك “تلك عاجلة بشرى المؤمن”، هذا ولو كان يُدفعُ الموتُ بشيء لدفعتْه نفوس مُحبي الشيخ عنه، ولكن كما قال الشاعر: “ولا تدفع الموتَ النفوسُ الشحائح”، ولو كان البقاء حريّاً بأحد لبقي النبي عليه الصلاة والسلام أبد الدهر، ولكن كتب الله تعالى أن تكون الدنيا دارَ انتقال، والآخرةُ دارَ مقرّ.