ناقش أستاذ الممارسة في جامعة الاستخبارات الوطنية الأمريكية جوش كيربل مفهوم “الحرب الباردة” الجديدة، حيث قال، في مقال نشره موقع “ذي هيل”: “لا شيء يثير معلقي الأمن القومي أكثر من الحرب أو التهديد بها، وعليه، فالغزو الروسي لأوكرانيا، وتهديدات الصين المتعلقة بتايوان، وخاصة بعد زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي البلد، أثارت دفقاً من التعليقات حول ما نراه، وماذا يعني للمستقبل”، وكانت الثيمة العامة لأبرز التعليقات، و”الحكمة” المستخلصة، أن ما نراه الآن، وما نشاهده، هو حرب باردة جديدة. فنحن نتعامل مع روسيا تحديداً بعد غزو أوكرانيا بالطريقة التي تعاملنا فيها مع الاتحاد السوفييتي، وعلى أنها تهديد عسكري يجب احتواؤه. وعزّزت نزعة الصين الحربية هذه المقارنات التي نعرفها حول قوتها العسكرية وميولها.
وعلى الرغم من الأصداء التاريخية هذه، فإن شراء الحرب الجديدة/ الثانية الباردة ليس مجرد خطأ، بل هو أمر خطير. ولو علمتنا التحركات العسكرية وهزاتها المنظمة شيئاً فهو أن التحديات التي تمثلها روسيا والصين شيءٌ أكبر من مجرد القوة العسكرية.
تضم التحديات مجموعة كاملة من القضايا المعقدة، مثل التغيرات المناخية والعولمة والهجرة وأمراض الاقتصاد المعدية، والمجال المعلوماتي الملوث وانتشار التكنولوجيا وانقطاع سلاسل التوريد، والتي تتسيد المجال الإستراتيجي.
كل هذه القضايا مترابطة ومتداخلة، والصين وروسيا داخلة فيها بشكل عضوي. وما يعزز هذا التعقيد هو مناخ معلوماتي يختلف عن مناخ المعلومات وشبكاته في أثناء الحرب الباردة السابقة. فقبل ثلاثين عاما، كان تدفق المعلومات من الأعلى للأسفل، حيث ظلت القدرة على نشر المعلومات محدودة، وتتولاها الحكومات وشركات الإعلام الكبرى. أما اليوم، فتكنولوجيا المعلومات تسمح لأي شخص تقريباً، وفي أي مكان، بالبث وتوسيع التأثير، وعلى قاعدة ومنظور وسرعة غير متخيلة.
والنتيجة هي أن مفهومنا التقليدي عن الهياكل/الفئات، العالمي والإقليمي والوطني والمحلي والسياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحرب والسلام، وغير ذلك، أصبح متداخلاً في الحرب الثانية. وهذا يقودنا إلى توصيف الحرب الباردة الجديدة الثانية وخطورتها؛ فالخطر من أن إحالاتنا المستمرة للحرب الباردة، وإن كانت بطريقة معدلة بـ”جديدة” و”ثانية”، ستؤكد المصطلح على أنها هدفنا الإستراتيجي الأساسي و “الإطار”.
وفي علم النفس فإن الإطار اللفظي هو توصيف لغوي، عادة ما يكون مجازاً، يشكّل الطريقة التي ننظر فيها ونرد على موضوع بعينه. في أثناء الحرب الباردة، أصبحت الكلمتان- الإطار- مرتبطتين بسياسة محددة، أي الاحتواء الجسدي والعسكري. وبالتأكيد، فإن الاحتواء، بذلك المعنى الضيق المغاير، يتناسب مع الزمن المرتبط بإستراتيجية هيكلية.
ولو تحول ذلك البناء اللغوي وأصبح إطارنا الأساسي فسنخاطر بالنظر إلى مشهد إستراتيجي أكثر تعقيداً وغير مقيد ومترابط، ونهج يفتقد السعة والرؤية الخلاقة التي يحتاجها. وبطريقة مغايرة، رغم علاقة الاحتواء العسكري وأهميته، إلا أنه يجب ألا تصبح الطرق المركزة والمقيدة الأمر المفترض. ولو بات هذا هو الوضع، فإنه قد يشمل صورة أكبر، ومناظير وأساليب ضرورية للتعامل مع مناخ أوسع وفوضوي.
وبالمختصر، فإن الخطر الذي يمثله إطار الحرب الباردة، وللمفارقة، لن يكون أقل من احتواء نفسك. وربما رفض البعض هذا التوصيف جملة وتفصيلاً، وسيقولون إن هناك استحالة للتعرف على الخطاب والمجاز والتأثير على أفكارنا وأفعالنا بطريقة قوية. ورغم هذه الاعتراضات، تقترح أبحاث علم النفس أمراً مغايراً. وأكثر من هذا، فالنقاش الإستراتيجي الجاري في دوائر الأمن القومي يشير إلى أن هذا هو ما يحدث. ويحتاج المرء للاستماع بقوة لكي يكتشف الإشارة المستمرة للحرب الباردة (الجديدة) وترددات الحرب القديمة وأساليبها التي تبدو واضحة جداً.
ويحذر المؤرخون من مخاطر مقارنة عهدين والوقوع في ملامح التشابه، ولكن الجانب الآخر هو أننا نتجاهل مظاهر الاختلاف بينهما. ففي الحالات التي تبدو فيها مظاهر التشابه طاغية، تكون غير مهمة.
وعندما نواجَه بمناخ إستراتيجي يشترك بمظهر من التشابه فإن علينا التفكير بالاختلاف والتشابه في نفس الوقت. ولو كنا نبحث عن حرب نقتبس منها الحكمة، فإن علينا العودة لحرب كورتيز ضد إمبراطورية الأزتيك عام 1519، ففي أثناء تلك العملية، قام هيرنان كورتيز بتخريب أسطوله ليُفهِم قواته ألا طريق للعودة. وهذا هو بالتأكيد ما علينا فهمه في ما يتعلق بفكرة عودة الحرب الباردة؛ لا مفر، وعلينا أن نحرق كل سفننا.