من صفات سيدنا نوح عليه السلام أنه تقيٌّ لله تعالى، وقد اهتمَّ بدعوة قومه إلى توحيد الله عزَّ وجل وإفراد العبودية له وحده والحث على تقواه؛ لأن تقوى الله عزَّ وجل هي الضمانة الحقيقية لاستقامة الناس على ذلك المنهج، وعدم التخلف عنه هنا أو هناك، وعدم الاحتيال عليه أو الالتواء في تنفيذه، كما أنها مبعث الخلق الفاضل المنظور فيه إلى الله بلا رياء ولا تظاهر ولا مماراة، فقد كان نوح عليه السلام قوي العلم بالله عز وجل، وأثر ذلك في صدق إيمانه وكمال توحيده وخشيته وتقواه لربه.
فكلما كان العبد أعلم وأعرف بربِّه سبحانه؛ كان أشد خوفاً وتعظيماً وعبادة ومحبة وإخلاصاً له، والعكس بالعكس، فقد قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 62)، أي أعلم من أمر الله ما لا تعلمونه، فأعلم من صفات الله وقدرته الباهرة، وبطشه بأعدائه ما جهلتم، وأعلم أن العاقبة للمتقين، وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين (الجليل، 1998، ج3، ص54).
ومن تقوى نوح عليه السلام لربه شدة تعظيمه وخوفه من الله تعالى، وقد جاء ذلك في قصة نوح مع قومه في سورة «هود»، حيث يقول الله عز وجل: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45} قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ {46} قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (هود).
ويظهر من هذه الآيات عِلمُ نوح عليه السلام بربه عزَّ وجل، الذي أثمر عنده هذا الأدب العظيم مع ربِّه، والخوف منه سبحانه، فتراه وهو يدعو ربه بشأن ابنه الهالك مع الكافرين، يختم دعاءه بقوله: (وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، ولم يقل: وأنت أرحم الراحمين، وهذا من كمال علمه بأسماء الله عز وجل وصفاته وآثارها؛ لأن المقام مقام تفويض واستسلام لحكمة الله البالغة التي اقتضت أن يكون ابن نوح مع الهالكين، ولم يكن مع الناجين، ولذلك ختم نوح دعاءه بقوله: (وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ).
كما يظهر في هذه المناجاة خوف نوح عليه السلام من ربه، واتهامه لنفسه بالظلم وطلبه المغفرة من ربه سبحانه، وذلك في قوله: (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ)، الله أكبر، هذا نوح عليه السلام الذي أمضى مئات السنين في دعوة قومه، وصبر وصابر وناله من الأذى والاستهزاء الشيء العظيم، ومع ذلك يختم دعوته بطلب المغفرة والرحمة من ربه سبحانه: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً﴾ (نوح: 28) (الجليل، 1998، ج3، ص57).
ثمرات التقوى
وكان نوح عليه السلام عبداً متقياً لربه في كل ما يجب أن يُتقى الله تعالى فيه، وهو اتقاء كل ما تفسد العقائد والأخلاق والعبادات والروابط العامة والخاصة، وكان على يقين من ربِّه بأن «العاقبة للمتقين»، وقد علم نوح عليه السلام أتباعه تقوى الله سبحانه، وزكى نفوسهم بالتربية على هذا الخلق العظيم.
ومن ثمرات التقوى الهادية إلى بناء المعرفة والقوة وحصول السيادة والتمكين في الأرض:
أ- أن جعل للمتقين ملكة من العلم، وهداية ونوراً في قلوبهم، وفرقاناً يفرقون به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الطيب والخبيث، ومخرجاً لهم من الشبهات وتكفيراً للسيئات، قال تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الأنفال: 29).
ب- يجعل الله عز وجل للمتقين مخرجاً من كل شدة، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون ولا يأملون، ويبارك لهم فيما آتاهم ويكفيهم ما أهمهم: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ (الطلاق).
جـ- للمتقين معية خاصة، فالله تعالى معهم بتأييده ومعونته وهديه: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ (النحل: 128).
د- يحصل بالتقوى الرخاء والخصب، فمن سُنته تعالى في خلقه حين يتركون ما نهى الله تعالى عنه وحرمه، حصول الخصب والوفرة في الإنتاج، وسعة العيش بكثرة الأمطار التي هي سبب كل خير من زرع وضرع، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
هـ- المتاع الحسن للمتقين؛ ومن سُنته تعالى تيسير سبل العيش الرغيد الهنيء، والحياة المريحة والنفسية المطمئنة لأهل الإيمان والتقوى، وإفاضة نعمه الحسية والمعنوية عليهم، وهذا المتاع الحسن هو ثمرة عبادتهم لله تعالى، وتقواهم له، واستغفارهم وتوبتهم إليه: ﴿أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ {2} وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ (هود).
وهكذا، فإن العاقبة الحسنة ثابتة للمتقين لا تفوتهم أبداً وفق سُنة الله في خلقه، فقد صبر نوح عليه السلام وأتباعه على مشاق التكليف، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي (أمحزون، 2011، ج1، ص398).
_________________________________________
1- علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم (ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية)، دار ابن كثير، بيروت، 1441ه -2020م، ص 401-404.
2- عبدالعزيز ناصر الجليل، وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، دار طيبة، السعودية، الرياض، الطبعة الثانية، 1419ه- 1998م.
3- محمد أمحزون، السنن الاجتماعية في القرآن الكريم، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1432ه- 2011م.