انطلقت في جمعية الإصلاح الاجتماعي، مساء الثلاثاء الماضي، اليوم الثاني من ملتقى “عزز يقينك”، الذي يقيمه قطاع الدعوة والتثقيف الشرعي بالجمعية، تحت رعاية د. خالد مذكور المذكور.
هذا، وقد تحدث خلال اليوم الثاني الشيخ د. عجيل النشمي، عميد كلية الشريعة سابقاً، رئيس رابطة علماء الشريعة في دول مجلس التعاون الخليجي، عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي، عضو المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، تحدث عن فقه الحرية ومعناها وأبعادها ومضامينها وما لها وما عليها، مؤكداً أن الحرية قضية تاريخية وإنسانية وفكرية وفلسفية، وهي قضية الإنسانية جمعاء منذ أن صادر قابيل حرية هابيل فقتله.
وأوضح د. النشمي أن الحرية بمعناها البسيط هي تصرف الإنسان في أقواله وأفعاله دون إكراه ودون قيد، لكن مفهوم هذه الحرية يختلف من مكان إلى آخر، فمفهومها عند الغربيين أو غير المسلمين يختلف عن مفهومها عند المسلمين، فعند غير المسلمين هي حرية بلا ضوابط؛ أي حرية في الفكر وفي الاعتقاد، وإن وصل إلى الكفر والعلمانية والليبرالية وغيرها من هذه المسميات.
وأوضح د. النشمي أن الحرية عند الغرب لم تبن على أسس سليمة، وإنما كانت رد فعل لموقف الكنيسة وتاريخها المظلم الذي أدى إلى ثورات في أوروبا، فالحرية جاءت إثر هذه الثورات ولم تكن على أسس، فبعد ثورة أمريكا والقانون الذي أصدروه قاموا من خلاله بتقنين الحرية إلى أن وصل إلى القانون الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1966م، فالحرية كانت رد فعل للوضع المأساوي الذي كان يعيشه هؤلاء القوم.
وتطرق د. النشمي إلى الحرية في الإسلام، وقال: إنها كانت نتيجة التنزيل، وهذا من غرائب تكوين الرأي والتوجيه؛ أن أمة تنطلق وتأخذ تعاليمها وتفاصيلها من النصوص القرآنية والنبوية؛ ولذلك كانت نشأة الحرية في الإسلام تختلف عن نشأة الحرية في أوروبا، وسبقت الحرية في الإسلام الحريات المعاصرة نحو أربعة عشر قرناً منذ أن تنزلت الآيات، ومنذ أن قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
وعن نشأة الحرية في الغرب قال د. النشمي: إنها نشأت نشأة مختلفة اختلافاً كبيراً؛ حيث بنيت على الشهوات والظلم وتحقيق ما يريده من يدير هذه الدول ولو كان على حساب الشعب والأفراد، مشيراً إلى أن الإسلام يختلف من حيث النشأة، وهذا الاختلاف ليس بالأمر الهين؛ لأن الحرية وفق النصوص والقواعد هي حرية منضبطة، بينما الحرية وفق الأهواء والشهوات حرية منفلتة، والإسلام دعا ابتداءً إلى التفكر، ودعا دعوة ملحة في كتاب الله إلى التفكر.
وبين د. النشمي أن الدعوة إلى التفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، فقد قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 191)، والتفكر هنا يؤكد أن هناك مدبراً لهذا الكون، والآيات المختومة بـ”أفلا يعقلون”، “أفلا يتدبرون” ملأت كتاب الله عز وجل، وفي الوقت نفسه القرآن ذاته يعيب على الذين يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22)، ويتبعون ما كان عليه آباؤهم من الضلال، وهذا يعني أنهم عطلوا تفكيرهم واستكانوا لأهوائهم، فالحرية في الإسلام تدعو إلى التفكر والتفكير، وقد ربط الإسلام بين الحرية والإنسانية، وهذا الربط لا تجده في أي ملة أو دين أو مذهب؛ بمعنى أن الإنسانية مرتبطة بالحرية، ولا إنسانية بدون الحرية؛ ولذا قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، وكرمنا بني آدم كلمة عامة، كل بني آدم، لم يخص المسلمين، بل الكرامة للكل، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة لما مرت جنازة وقف النبي صلى الله عليه وسلم فقِيلَ: إنَّه يَهُودِيٌّ، فَقالَ: “أَليسَتْ نَفْساً”، فهذه كلمة عظيمة، فلذلك كان الصحابة يقفون لكل جنازة.
وأضاف د. النشمي أن القرآن الكريم ربط بين الحرية الشخصية والواجب، فلقد أعطى الإسلام الحرية للفرد، ولكن منا السمع والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يطلقها، ولذلك فالإسلام يمنع الإنسان من أن يتصرف في نفسه كأن يقتل نفسه، بينما هذا الأمر موجود في الغرب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قتَلَ نفسَهُ بحديدةٍ جاءَ يومَ القيامَةِ وحديدتُهُ في يدِه يتوجَّأُ بِها في بطنِهِ في نارِ جَهنَّمَ خَالدًا مخلَّدًا أبدًا، ومن قَتلَ نفسَه بسُمٍّ فَسمُّهُ في يدِه يتحسَّاهُ في نارِ جَهنَّمَ خالدًا مخلَّدًا”؛ ولذلك فإن القرآن الكريم وضع قضيتين أساسيتين في حريات الناس لترسخ في أذهانهم؛ وهي التعددية الفكرية التي يقرها الإسلام، وهي تعددية الاجتهادات؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118)، أما القضية الثانية، فإن الله عز وجل جعل الحرية مأموراً بها بين الرجال والنساء، وقد قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71).
أما السُّنة، فأكدت الحرية بالقول والفعل، وهذه الأحداث كثيرة في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: “لا تكونوا إِمَّعَةً، تقولون: إنْ أحسَنَ الناسُ أحسنا، وإن ظلموا ظلَمْنا، ولكن وَطِّنوا أنفسَكم، إن أحسَن الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤوا أن لا تَظلِموا”، وهذا حث قوى من النبي على أن كل مسلم يجب أن تكون شخصيته مستقلة، وقال أيضاً: “والَّذي نفسِي بيدِه، لتَأمُرنَّ بالمعروفِ، ولتَنهونَّ عَنِ المنكرِ”، وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم في “أُحد”، ونزل على رأي الشباب، وفي “بدر” نزل عند رأي الحباب بن المنذر، وفي غزوة “الخندق” نزل عند رأي سلمان الفارسي.