لا تجد دينًا ولا مذهبًا ولا قانونًا بشريًّا دعا إلى الرفق وحضّ عليه كما فعل دينُ الإسلام، ولن تجد نبيًّا ولا رسولًا ولا زعيمًا ولا مصلحًا كان في عدالة ورفق نبينا محمد ﷺ؛ ما جعل هذا الدين واحة أمان للباحثين عن الكنف الرحيم، والقلب الشفيق، والعطاء بلا مقابل، والعطف والرعاية والسماحة واللين.
لمّا بَعثَ ﷺ أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قال لهما: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا» (رواه البخاري).
في مايو 2020، حررت المخابرات التركية الفتاة الإيطالية سيلفيا رومانو (25 سنة) التي ظلت محتجزة لعامين في كينيا ثم الصومال، وكانت المجموعة المسلمة التي احتجزتها قد أحسنت معاملتها؛ حتى إذا أُذن لها بالرحيل، وكان رئيس الوزراء الإيطالي ووزير خارجيته في استقبالها، فوجئوا بارتدائها الحجاب، فانسحبوا لمّا رأوها بهذه الصورة، وعتّموا على خبر إسلامها، بل تعرّضت لهجوم عنصري من الإعلام الغربي بسبب هذا التحوّل.
ولمّا سُئلت: لِمَ أسلمتِ؟ قالت: لقد ذهبتُ لتنصير يتامى المسلمين وعدتُ مسلمةً، وسَمّيتُ نفسي «عائشة»؛ تيمنًا بزوج النبي محمد ﷺ، لقد اخترتُ هذا الدين بعدما عرفت حقيقته، لقد عاملوني برفق تام وإنسانية رائعة.
أما حقيقةُ هذا الدين، فإنه ملاذُ المستضعفين، وأنيسُ المظلومين، وجابر المنكسرين، وجماع الإنسانية في صورها كافة.
والرفق صفةٌ من صفاته، وثمرة من ثمراته، وهو شرف كل مؤمن، ورأس الحكمة، وعنوان الرحمة والرأفة والتواضع؛ ألا ترى ما أخبر به المعصومُ في شأن هذا الخُلق؛ قال ﷺ: «من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من الخير، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حُرم حظه من الخير» (رواه الترمذي)، «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» (رواه أبو داود).
والرفق يعني لين الجانب، وحسن الصنيع، بالقول والفعل، والمسامحة واللطف، والتيسير لا التعسير، وعدم التحميل فوق الطاقة، وهو على العموم: كل أمر محمود يكون ثمرة فقه وبصيرة، ومن قبلُ توفيق من الله للعبد وتيسير، وهو ضد العنف والحدّة، والفظاظة والشدّة؛ وهؤلاء من جرّاء الشهوة والغضب مما نهى اللهُ عنه رسولَه والمؤمنين؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159).
والرفق في الإسلام يكون أولًا بالرفق بالنفس؛ لجبلها عليه وكي تعطيه عن طوع وعفوية؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يدرك الرحمة إلا من تخلّق بها، يقول ﷺ: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»؛ ما يعني التماس التيسير، وعدم التكلف بما فوق الوسع، وعدم اليأس، وهذا مما يوصِّل إلى كمال الإيمان، ومحبة الناس، وبث التعاون بين أفراد المجتمع.
ويكون الرفق من الراعي للرعية، ومن الحاكم بمحكوميه؛ (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88)، فإنه ما أفسد الأمم إلا طغاتُها ومستبدُّوها الذين قسوا وظلموا، وتعالوا واغتروا فهلكوا وأهلكوا؛ فنهى الإسلام عن كل ذلك، بل شدد النكير على هؤلاء الظالمين الذين تعدوا وبغوا؛ يقول النبي ﷺ: «اللهمّ من ولي من أمر أمتي شيئًا فشَقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارق به» (رواه مسلم).
والمسلمُ مطالبٌ بالرفق مع كل إنسان، مسلمًا وغير مسلم، ولعل الرفق بالأسرى، وهو باب كبير في أبواب الفقه الإسلامي، يؤكد حرص الإسلام على هذا الخُلق العظيم حتى حظي أسير المسلمين بما لم يحظ به مواطنُهم، كما ضرب لنا القرآن مثلًا بإبراهيم عليه السلام الذي ترفّق بأبيه وأظهر له جانب البرِّ رغم ما أبداه الأخير من تعالٍ وعنف؛ (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 46، 47)، إنها الرحمة في أبهى صورها، وهي حسن الخلق وتتمة الإيمان وما يجب أن يتحلى به المسلم.
ويتعدى –من ثَمَّ- رفق المؤمن إلى الكافر؛ لاجتماعه معه في الإنسانية كما سبق، وطمعًا في استنقاذه من النار، بتبيان ما يخفى عنه من محاسن هذه الدين ولزوم اتباعه؛ (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
من أجل ذلك عاتب النبي ﷺ زوجه عائشة رضى الله عنها فيما ورد عنها، قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله ﷺ فقالوا: السام عليك، ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله ﷺ: «مهلًا يا عائشة! فإن الله يحب الرفق في الأمر كله»، فقلت: يا رسول الله، أو لم تسمع ما قالوا؟! قال رسول الله ﷺ: «فقد قلت: عليكم» (متفق عليه).
والدعاة هم أوْلى الناس بتبيان هذا الأمر، والإعلام بفضل هذا الدين على غيره، وسبقه في هذا الباب؛ إذ لم يبق في كنفه إنسان ولا حيوان إلا ناله جانب واف من الرفق والمرحمة، خصوصًا في زماننا هذا الذي قست فيه القلوب، وساد الجحود، وانتُزعت الرحمة من قلوب كثير من الخلق، فيكون الإسلام هو الدواء الشافي من ذلك الجفاء المرّ الذي شقيت به المجتمعات.
يقول النبي ﷺ: «من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله» (رواه مسلم)، «عليك بالرفق، إن الرفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه» (رواه مسلم).
ويعلّمنا النبي ﷺ كيف نكون رفقاء رحماء بأهلينا ومن نعول، وبالضعفة والصغار، والخدم والأجراء، والمصابين والمنكوبين، ولا يتسع هذا المقام لإيراد ما جاء بحق هؤلاء وغيرهم، لكننا نورد نُبذًا منها لعلها تفي بالغرض، عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: بال أعرابيٌّ في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي ﷺ: «دعوه وأريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، إنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسرين» (رواه البخاري)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «خدمتُ رسول الله ﷺ عشر سنين، والله ما قال لي أفٍ قطّ، ولا قال لي لشيء لِمَ فعلتَ كذا وهلّا فعلت كذا».
وفي الرفق بالمرأة ورد أنه ﷺ كان يتجوّز في صلاته إذا سمع بكاء طفل، ويوصي الحادي بأن يخفّف رفقًا بالقوارير، ويأذن لعثمان بالتخلّف في غزوة «بدر» للتفرغ لرعاية زوجه المريضة، وغيرها.
ومع الصغار ورد أنه ﷺ كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح على رؤوسهم، وكان يقبّل الحسن والحسين ويلاعبهما، وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، وغيرها.
يقول أنس رضي الله عنه: «خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت النبي ﷺ يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب» (رواه البخاري)، ويُروى عنه ﷺ: «أنه عندما كانت تأتيه فاطمة رضي الله عنها كان يأخذ يدها ويقبلها، ويجلسها مكانه الذي يجلس فيه»، وورد في الخبر، إنكارًا لما يكون عليه البعض من غلظة وفظاظة: «شرُّ الناس الضيِّق على أهله»، قالوا: يا رسول الله! وكيف يكون ضيِّقًا على أهله؟ قال: «الرجل إذا دخل بيته خشعت امرأته وهرب ولدُه وفرَّ، فإذا خرج ضحكت امرأته واستأنس أهله» (رواه الطبراني).
والحيوان في ظل الإسلام مشمول أيضًا بالرعاية والرفق، وهذا باب كذلك من أبواب الفقه، نوجزه هنا بفضل الإسلام في: التوصية بوجوب ما يصلحه، والنفقة عليه، والإحسان إليه بإطعامه وسقيه، ورحمته والترفق به، والنهي عن التحريش بينها؛ حتى في الذبح روعي هذا الأعجم الذي يقتله الآخرون بالصعق إذا أرادوا أكله، فأوصى النبي ﷺ بإراحته حال ذبحه، كما ورد في الحديث المشهور: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (رواه مسلم).