جاء في تراثنا في بيان معنى الاقتصاد قول سفيان بن حسين، رحمه الله، لأصحابه وتلاميذه: أتدرون ما الاقتصاد؟! هو الشيء الذي ليس فيه غلو ولا تقصير؛ أي: ليس فيه إسراف ولا بخل.
وليس ذلك إلا تبيين وتفسير للقوام الذي جاء في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67)، فالاقتصاد هو المنزلة بين المنزلتين المتطرفتين؛ منزلة البخل والتقتير، ومنزلة الإسراف والتبذير.
وقد بيّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم قيمة هذا الاقتصاد ومكانته في الإسلام، حين جعله من أجزاء النبوة، وذلك بقوله عليه السلام: «السمت الصالح، والهَدْي الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة».
كذلك، فقد ورد أن عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، كان يقول: «إن من أحب الأمر إلى الله عز وجل القصد في الغنى والعفو في المقدرة».
ولهذا، فقد كان الاقتصاد وعدم الإسراف من العلامات التي تميِّز المؤمن عن غيره؛ فعن الحسن البصري رحمه الله قال: «إن من علامة المؤمن: قوة في دين، وحزمًا في لين، وإمامًا في يقين، وحِلمًا في علم وكيسًا في مال، وإعطاءً في حق، وقصدًا في غنى، وتجمُّلاً في فاقة، وإحسانًا في قدرة..».
ولما كان التبذير يؤدي إلى الفقر، فقد لزم أن يؤدي الاقتصاد إلى الغنى، لهذا فقد نفى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الفقر عن المقتصد، فقال عليه السلام: «ما عال مقتصد»، وفي رواية أخرى: «السؤال نصف العلم، والرفق نصف العيش، وما عال من اقتصد».
ولما كان المأكل والمشرب ضروريين لحياة البشر، فقد لزم عليهم الحفاظ عليهما وعدم الإهمال أو التفريط فيهما؛ إذ لا قوام لهم إلا بهما، وقد دعانا الله سبحانه لهذا، فقال عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31).
وقيّد لنا سبحانه وتعالى هذا المأكل والمشرب بكونه حلالاً خالصًا بعيدًا عن شبهة الحرام، فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة: 172)، وذلك بشرط عدم الإسراف أو التبذير؛ لأنه تعالى لا يحب المسرفين، ومن هنا فقد كان القصد طريقًا إلى نيل محبة الله.
وقد أظهر رسول الهدى عليه السلام بشاعة من يسرف في مأكله، وسمَّى ذلك شرًّا، بقوله عليه السلام: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم أكلات (لقيمات) يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث طعام، ثلث شراب، وثلث نفس».
وقد أدرك الكثير من العلماء المتخصصين في العلوم الطبية في عصرنا الحاضر هذه الحقيقة، وبدؤوا بعلاج الكثير من الأمراض انطلاقًا من مبدأ التقليل من الطعام.
ورد عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «أيها الناس، إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسم، مؤشرة للسقم، ولكن عليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أدنى من الإصلاح، وأبعد من السرف، وأقوى على عبادة الله عز وجل، فإنه لن يُهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه».
ومن هنا، فقد كانت البطنة مؤدية إلى الفقر؛ إذ هي في أولها إسراف في الأموال من أجل توفير الكثير من الطعام والشراب، وهي في آخرها إهدار للأموال لمعالجة ما لحق الإنسان المسرف من أمراض ومتاعب.
والأمر بالاقتصاد والاعتدال والتوسط يسري في كل مناحي الحياة؛ الملبس والمسكن، والمركب والخادم، ووسائل الاتصالات والمواصلات والترفيه.
بيد أن هناك قضية مهمة؛ هي أن الاقتصاد في الحاجات الأساسية لا يعني أن يعيش المسلم بعيدًا عن التمتع في هذه الحياة وفق الضوابط الشرعية والقيود الأخلاقية.
ذلك لأن التمتع بهذه الدنيا ونعيمها لا يتنافى مع نظرة الإسلام الاقتصادية؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من نعيم الدنيا، وإن كانت لا نعيم لها: المسكن الواسع، والزوجة الصالحة، والمركب الموافق».
ورحم الله الحسن البصري القائل: «إن المؤمن أخذ عن الله تعالى أدبًا حسنًا، إذا وسع عليه وسع، فإذا قتّر عليه قتر».
وصدق الله القائل: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص: 77).
_________________________________________________________
(*) المستشار الاقتصادي، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.