مصدر الأمن والسكينة لدى المؤمن ما يغمر جوانحه من أمل، ذلك الشعاع الذي يلوح للإنسان في دياجير الحياة فيضيء له الظلمات وينير له المعالم ويهديه السبيل، فالأمل قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمجد إلى المداومة على جده، والزيادة فيه، كما تدفع المخفق إلى تكرار المحاولة حتى ينجح وتحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد ليزداد نجاحه.
إن الذي يدفع الزارع إلى الكدح والعرق أمله في الحصاد، والذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر أمله في الربح، والذي يبعث الطالب إلى الجد والمثابرة أمله في النجاح، والذي يحفز الجندي إلى الاستبسال أمله في النصر، والذي يهون على الشعب المستعبد تكاليف الجهاد أمله في التحرر، والذي يحبب إلى المريض الدواء المر أمله في العافية، والذي يدعو المؤمن أن يخالف هواه ويطيع ربه أمله في رضوانه وجنته.
الأمل إذن هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومخفف ويلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.
ضيق العيش وفسحة الأمل!
والأمل –قبل ذلك كله– شيء حلو المذاق، جميل المحيا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق، واستمع إلى الشاعر العاشق يقول:
أَبيتُ أُمَنّيَ النَفسَ مِن لاعِجِ الهَوى
إِذا كادَ بَرحُ الشَوقِ يُتلِفُها وَجدا
مُنىً إِن تَكُن حَقّاً تَكُن أَحسَنَ المنى
وَإِلّا فَقَد عِشنا بِها زَمَناً رَغدا
أَمانِيُّ مِن سُعدى عِذابٌ كَأَنَّما
سَقَتنا بِها سُعدى عَلى ظَمَأٍ بَردا
وضد الأمل اليأس، وهو انطفاء جذوة الأمل في الصدر، وانقطاع خيط الرجاء في القلب، فهو العقبة الكؤود والمعوق القاهر الذي يحطم في النفس بواعث العمل، ويوهي في الجسد دواعي القوة.
قال ابن مسعود: “الهلاك في اثنتين؛ القنوط والعُجب”، والقنوط هو اليأس، والعُجب هو الإعجاب بالنفس والغرور بما قدمته.
قال الإمام الغزالي: “إنما جمع بينهما؛ لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب، والجد والتشمير، والقانط لا يسعى ولا يطلب؛ لأن ما يطلبه مستحيل في نظره، والمعجب يعتقد أنه سعى وأنه قد ظفر بمراده فلا يسعى..”.
ومصداق هذا الكلام في الحياة جلي واضح، إذا يئس التلميذ من النجاح نفر من الكتاب والقلم، وضاق بالمدرسة والبيت، ولم يعد ينفعه درس خاص يتلقاه، أو نصح يسدي إليه، أو تهيئة المكان والجو المناسب لاستذكاره، أو.. أو.. إلا أن يعود الأمل إليه.
وإذا يئس المريض من الشفاء كره الدواء والطبيب والعيادة والصيدلية، وضاق بالحياة والأحياء، ولم يعد يجديه علاج، إلا أن يعود الأمل إليه.
وهكذا إذا تغلب اليأس على إنسان –أي إنسان– اسودت الدنيا في وجهه، وأظلمت في عينيه، وأغلقت أمامه الأبواب، وتقطعت دونه الأسباب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.
ذلك هو اليأس، سم بطيء لروح الإنسان، وإعصار مدمر لنشاطه، وتلك حال اليائسين أبد الدهر: لا إنتاج للحياة، ولا إحساس بمعنى الحياة.
من فرَّط في القدس يوشك أن يفرِّط في الكعبة والمسجد الحرام ([2])
مرور أربعين عاماً على احتلال القدس ذكرى أليمة وحزينة، سميتها في كتاب لي “النكبة الثانية”؛ لأن النكبة الأولى كانت سنة 1948م، التي شردت الفلسطينيين وأخرجتهم من ديارهم، وقامت دويلة “إسرائيل”.
كانت نكبة كبرى؛ إذ استطاعت “إسرائيل” خلال ساعات احتلال سيناء والجولان، وغزة والضفة الغربية، والقدس الشريف، وأخذت هذه الهزيمة ما بين القنطرة والقنيطرة، وكان من آثار هذه النكبة أن فلسفة السياسة العربية تغيرت تماماً، فكانت قبل النكبة تعتبر “إسرائيل” مغتصبة وليس لها حق، ولكن بعد النكبة تغيرت السياسة وأصبحت فلسفتنا “إزالة آثار العدوان الغاشم”، وعادت الأحوال لما كانت عليه قبل عام 1967م، كأن عدوان 1967 أضفى الشرعية على عدوان عام 1948م، فأصبح عدواناً مسكوتاً عنه وليتنا أزلناه!
إن من فرط في “الأقصى” يوشك أن يفرط في الكعبة والمسجد الحرام، فالله ربط بينهما رباطاً أبدياً.
وما يشد أزر الصهاينة في ذلك، ويقوي عضدهم، التنازع الفلسطيني والعجز العربي والوهن الإسلامي والتواطؤ الأوروبي، والغياب العالمي، والمساندة الأمريكية، فالمال والسلاح الأمريكيان جعلا “إسرائيل” تعربد في المنطقة كيفما يحلو لها.
الفلسطينيون قدموا الغالي والنفيس بأرواحهم ودمائهم.. شيوخهم وشبابهم.. قدموا الدماء رخيصة من أجل وطنهم.. قدموا آلاف الشهداء والسجناء والمعتقلين.. دخلوا اللعبة الديمقراطية، واختاروا حكومتهم بكامل إرادتهم، ونجح الإخوة في “حماس”، ولكن الغرب حارب خيار الشعب، وحاصره وجوَّعه وقهره، فأين الديمقراطية؟ وأين الحرية؟ وأين حقوق الإنسان؟!
علينا نحن العرب؛ مسلمين ومسيحيين قوميين وإسلاميين، مناداة أحرار العالم لرفض العدوان والأعمال الوحشية.
علينا الوقوف مع إخوتنا مع أبناء فلسطين ضد الظلم والطغيان، وأن نشد أزرهم بكل ما نستطيع؛ لأن ما يتطلب منا ليس تبرعاً ولكنه جهاد بالمال.
علينا تزويدهم بالمال عن طريق الزكاة وغيرها؛ مثل أموال الوقف، والصدقات، وأي مال فيه شبهة (يجوز التبرع به).. علينا الاستمرار في مقاطعة الأعداء وبضاعتهم.
وأقل ما ينبغي أن نكون معهم بالعون الروحي، فندعو الله لهم أن يفتح لهم فتحاً مبيناً، وأن ينصرهم نصراً عزيزاً.
ويجب على شعوبنا أن تترك النزاع، وأن تصدق مع الله ولو مرة واحدة، وذلك مصداقاً لقول العزيز: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (الصف: 4).