لقد كانت حياة الشيخ الغزالي سلسلة من المعارك الفكرية الشجاعة والمواقف العملية الباسلة.
كان فيلسوف العدل الاجتماعي، الذي ثار على البؤس الذي كان يطحن جماهير الفقراء الذين كانوا يعملون بالريف في الدوائر الإقطاعية، «ينامون في الإصطبلات، فإذا عادوا إلى قراهم مات نصفهم تقريباً».
فكان كتابه «الإسلام والأوضاع الاقتصادية» ثورة على هذا البؤس الذي تعيش فيه الملايين، وعلى الترف والسفه الذي يحياه الإقطاعيون والرأسماليون.
«فلقد كانت البيئة العربية تواجه انفصالاً غريباً بين طبقات الأمة، كانت الأمة مقسمة بين سادة وعبيد، ولأني أعلم أن الفضائل لها أسبابها الاقتصادية، والرذائل لها أسبابها الاقتصادية، وأن الأمم إذا أسلمت زمامها إلى المترفين والناعمين فقد أسلمت عنقها إلى جزار، فمعنى هذا أنني يجب أن أكتب في موضوع أنا أعانيه بلحمي ودمي، فكتبت «الإسلام والأوضاع الاقتصادية» على هذا الأساس، وكنت أول من كتب في هذا الموضوع باللغة العربية، كتبت فيه لأن الإسلام علمني أن أولئك المترفين أعداء لرسالات الأنبياء، وأعداء الإصلاح، وليس عندي مانع أبداً أن أذهب إلى ابن حزم (384 – 456هـ/ 994 – 1064م) الذي يقول: إنه لكل مسلم بيت يواريه من الحر والبرد، وعيون المارة، وطعام يكفيه، وعلى الدولة توفير ذلك، وإذا لم توفر له قاتل، ومن قتله فهي فئة باغية».
إن عندنا في الإسلام نظريات اقتصادية لو عرفها الأوروبيون لطلقوا كارل ماركس وداسوا عليه بالنعال -كما فعلوا الآن- لكن المشكلة ضيق النظر في العرض وسوء الفهم في الفقه.
إن النظام الرأسمالي -المنتعش الآن- تسرح في دمائه جراثيم إذا بقيت ستهلكه، ويلحق بالنظام الشيوعي»([2]).
فلسفة الجمال:
وفي مواجهة القبح والتجهم الذي يريد البعض فرضه على الإسلام وأمته، خاض الشيخ الغزالي معركة الكشف عن فلسفة الجمال في القرآن والإسلام.
«ذلك أن منظر الفلاح وهو ذاهب إلى حقله وهو عائد منه وحوله دوابه التي يرتزق منها له في القرآن وصف يستحق التسجيل: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ {6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (النحل)، الكون فيه جمال كثير، والله سبحانه وتعالى من أسمائه «الجميل»، وقد أشاع من هذا الاسم الحسن معاني الجمال في الدنيا، فإذا كان بعض الناس يعمى عن رؤية الجمال في الأرض والسماء فهو مسؤول عن الحجاب الذي نسجه على بصيرته، وإذا كان هناك من الناس من تفتحت أشواق نفسه على ما في الكون من جمال فأحب الكون الذي خلقه الله لأنه يحب الله نفسه ويحب ما خلق، فإن الإيمان لا يعارض.. وفي نظري أن الإيمان نفسه ينبغي أن يتحول من تكاليف فيها مشقة أو فيها جد يستقبله الإنسان بشيء من الاستجماع، لا بد أن يتحول الإيمان إلى شيء حلو سائغ، وهذا هو المعنى الذي لفت أنظارنا إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، عندما قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً».
وأنا سألت نفسي: عندما تورمت أقدام نبينا صلى الله عليه وسلم من الوقوف بين يدي الله، أكان نبح الألم في قدميه يغلبه عن مناجاته؟ أم أن حلاوة المناجاة كانت هي التي تغلب نبح الألم، وتعجل السعادة وقرة العين في الصلاة تقلب الألم إلى لذة، لذلك أشار إلى هذا: «جعلت قرة عيني في الصلاة»، فلا بد أن تتحول الحقائق إلى شيء حلو سائغ.
أنا أرى أن من الممكن أن تتحول الفنون إلى عوامل بناء لا إلى عوامل هدم، ومن الممكن أن نفعل هذا.
وأنا أحياناً أقرأ الكتاب فلا أفهمه، لأن عقلي مليء بالمشاغل التي جعلته مكدوداً لا يحسن الاستنباط، وما أفهم القضية ولا أحسن التأتي إليها من أحسن الأبواب إلا إذا استرحت، وقد تعني لي الراحة أصواتاً حسنة أو لحناً طيباً، والأمم الآن تدق طبول الحرب باستمرار لا لتنظم الخطوة فقط، بل لأن الصدى النفسي الرهيب لهذه الدقات تجعل الناس ينطلقون إلى الموت خفافاً، فما يعين على أداء الواجب فهو واجب ولا شيء فيه..»([3]).
مواقف مشهودة:
وللشيخ الغزالي مواقف مشهودة، وتراث مشهور، بعضه كتب في تحرير المرأة بالإسلام، وفي رفض تحريرها من الإسلام، كما يريد المتغربون أسرى النموذج الحضاري الغربي، وفي هذه المحاورات التي نعرف بها طرق شيخنا هذا الموضوع، فقال ضمن ما قال:
«إن من حق المرأة أن تتحرر، ولكن ليس على النهج الغربي، فهو إباحي وحيواني، ولكني أريدها أن تتحرر، وتصلي الصلوات الخمس في المسجد، وتشهد الخير ودعوة الإسلام في صلاة العيد.. نعم، نريد حرية المرأة، فالمجتمع له ساقان هما الرجل والمرأة، جناحان يطير بهما، فلا تترك أحد الساقين أو الجناحين ونقول: إن الإسلام يسير، لا لن يسير»([4]).
«وأنا عندما أفتي بمذهب ابن حزم في أن شهادة المرأة في الجنايات والحدود والقصاص تقع، فهذا هو المذهب، لأن المرأة شاهدت من يضرب، أو من يقتل، أو من يجرح، فكيف نبطل شهادتها وهي متعلمة ومثقفة، وقد تكون أحسن من رجال نعرفهم؟!».
ولقد رفض الشيخ الغزالي تعميم الحكم في حديث ناقصات عقل ودين، وقال: «إنه في طائفة معينة في نصف محدود يتصف بأخلاق معينة».
وفسر الخلق من ضلع أعوج بأنه «المقصود به أن عاطفة المرأة تغلب في أحيان كثيرة».
ونبه «بأن عدداً من العلماء الكبار، مثل جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وهو إمام، ومثل الشيخ محمد رشيد رضا، وهو إمام، ومثل الشيخ عبدالرحمن الكواكبي، وهو إمام، تكلموا جميعاً في حقوق المرأة، وأول من تكلم في حقوق المرأة محمد عبده، وتكلم حتى في مسألة التعدد، وطه حسين كان أبصر بالحق عندما فتح كلية الآداب للمرأة، بينما كان الأزهريون أبعد عن الحق عندما منعوا المرأة من دخول جامعة الأزهر، ثم هُدوا إلى الصواب وفتحوا الجامعة للنساء»([5]).
تحديات صليبية:
ولقد أولى الشيخ الغزالي، في مشروعه الفكري، وفي محاوراته، تحديات الصليبية الغربية اهتماماً كبيراً، ومع عدائه الشديد لتحديات هذه الحضارة الصليبية، كان منصفاً لما فيها من إيجابيات.
«فهذه الحضارة الغربية بها طور ذكي من أطوار الحضارات الإنسانية الممتدة، تحرك فيها العقل الإنساني حركة صحيحة عندما نظر في الكون، ولا أحابي إن أنا اتهمت أمتي الإسلامية أنها خانت كتابها عندما اتجهت إلى البحوث النظرية اليونانية وما إليها، وتركت الكون الذي أقسم الله به زماناً ومكاناً دون أن تحتفي به ودون أن تبحث فيه».
«لقد تركنا منهجنا الإسلامي الكوني الذي يبحث في الكون كيف خُلق وإلى الأرض كيف سطحت، نسينا هذا كله، وترجمنا وسعينا إلى ترجمة الكلام الغربي الفارغ عند اليونان، هؤلاء الأوروبيون كانوا أعقل منا، استطاعوا أن يعرفوا الإسلام ومنطق التجربة والاستقراء والملاحظة والبحث عن اليقينيات ورفض الظنون والأوهام التي حُذرنا منها في كتابنا، وبدؤوا عصر النهضة ووصلوا إلى تسخير قوى الكون لهم، أنا لا أستطيع تجاهل هذا أبداً، وأن نجحف الأوروبيين حقوقهم في تسخير قوى الكون والوصول إلى ما وصلوا إليه في تطويع كل شيء لهم، هذا أمر لا بد من التنويه به».
لكن العلم الذي بدأه في أوروبا بشرياً، يبحث عن الحقيقة، ويصطدم بالمسيحية، ويقدم الضحايا ليصل إلى ما وصل إليه، سرعان ما تغيرت الدنيا، واصطلحت الكنيسة بطريقة ماكرة مع العلم والحضارة والتقدم، وبدأت تطوع هذا كله لنفسها ضد العدو التقليدي التاريخي وهو الإسلام، وسرعان ما وجد الفاتيكان الذي كان عدواً للعلم أصبح صديقاً للعلم وللدولة وإلى ما شاء من حضارة، وبدأ يستغل هذا كله ليضرب عدوه الأساسي وهو الإسلام.
إن اليهودية هي الأخ الأكبر والأصل للحضارة المسيحية، ولذلك فالكتاب المقدس يجمع أوله العهد القديم، وثانيه العهد الجديد، وهم يكونون حضارة واحدة كما يقولون، فالحضارة الآن لها جانب ديني واقتصادي يعمل بعضها مع بعض.
لقد شعرت أن المسيحية التي تحكم العالم الآن لا تريد أبداً أن تنصفنا، تفكيرها ينحصر في كيف تتغلب علينا، وكيف تضع المؤامرات لتدويخنا في الداخل والخارج، وكيف تستغل الأسر الحاكمة أو طلاب الشهوات والظهور والاستعلاء في الأرض من أبناء الشعوب، وهم أشد نهماً من الملوك والأمراء في طلب السلطة، وفعلاً مع تغلغل في النظر بالتاريخ الاستعماري وجدت أنهم استغلوا أناساً نبتوا من الشعب، من أحط البيئات فيه وأظلمها، استغلوهم لضرب الإسلام، وضرب الأمة، وعندما نكتب التاريخ كتابة صحيحة فسنكتشف مآسي الأوروبيين ضد الإسلام.
تجريد الدين:
إن الغرب يريد استغلال الأخطاء التي نقع فيها، فهو يريد تجريد الإسلام وحده من الدولة، في وقت يجعل الدين دولة في فلسطين، هذه معاملة يظهر فيها الغرض، وهو تجريد الدين من المعاني الاجتماعية، التي نعرفها نحن فيه، وهي جزء من كيانه، لكي يجيء بالعلوم الإنسانية لتحل محل الدين في هذا الأمر، والعلوم الإنسانية كما صورها هي علوم تنبع من بيئة إلحادية. وأنا أنظر إلى الاستعمار الغربي نظرة مزدوجة، قد يكون من الناحية العسكرية احتل البلاد بجيوشه، ليست هذه هي المشكلة الخطيرة، هناك مشكلة أخطر منها وهي احتلال العقول بثقافتهم. أنا أرى أن الأوروبيين يعملون بدقة وروية وتؤدة لضرب العالم الإسلامي في جميع النواحي، ففي مجال التبشير هناك حركة دقيقة ضد العقيدة، وفي ميدان التقاليد الاجتماعية، وفي ميدان الكتابات الصحفية، وفي ميدان التنسيق الدولي والإداري، وفي المجال العالمي، كأن هناك حباً لا خفية يشد بعضها بعضاً للإحاطة عن طريق غزو ثقافي وسياسي واجتماعي منظم..»([6]). وكان الشيخ الغزالي يدرك أن الغزو الفكري الغربي إنما يتمدد في الفراغ الذي يخلفه فقرنا الفكري والجمود والتقليد الذي يشل طاقات الأمة، ويحول بينها وبين التجديد والإبداع، وفي ذلك قال: «أنا ألوم إخواني الذين يشتغلون في المجال الإسلامي لأن ضحالتهم الثقافية مزعجة، وأحياناً تكون هزيمة الدين بسبب العاملين له، لأنهم يتركون ميادين يتمدد فيها الشر، وما كان له أن يتمدد لو امتلأت بالخير، لن تجد فراغاً تتمدد فيه. إن انهيار الأمة الإسلامية السياسي تابعاً لانهيارها الفكري والروحي»([7]).
العدد (2017)، 20 شوال 1433هـ/ 7 سبتمبر 2012م.
([2]) «الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية»، طبعة دار السلام، القاهرة، سنة 1430هـ/ 2009م، ص 34، 56، 204، 208، 215.
([3]) نفس المرجع، ص 270، 275، 285، 286.
([5]) نفس المرجع، ص 97، 240، 242، 245.