آهٍ لو تعرف كم عانت البشرية واجتهدت حتى يجد الإنسان وسيلة لرؤية وجهه!
كان حلُما يراود الإنسان ويسعى لتحقيقه منذ الأزل، كان ينظر إلى سطح الماء الساكن في الليل البهيم فيرى صورة القمر والنجوم، فاتخذ صفحة الماء الرائق وسيلة ليرى صورة وجهه، وفي العصر الحجري توصل لصقل بعض الحجارة بعد جهد جهيد حتى يتمكن من رؤية انعكاس وجهه على سطح الحجر المصقول، ومع عصر البرونز كرر المحاولة مرة أخرى بصقل المعادن.
كل هذه الوسائل القديمة من الحجر والمعدن وغيرها كانت قليلة العدد، ولم تكن في متناول كل الشعوب، ولا كل بيت من الشعوب التي تستعملها، ثم بدأت بوادر الحلم في التحقيق في القرن الخامس عشر مع بدايات ظهور المرايا.
كانت المرايا في بداية ظهورها باهظة الثمن ومحدودة الاستخدام، وحملت معها مخاطر التسمم؛ لأنه في بدايات صناعتها في جزيرة مورانو في فينيسيا بإيطاليا كانوا يستخدمون الزئبق كمادة خلفية معتمة تعكس الصورة، ومادة الزئبق كانت تتسبب في كثير من حالات التسمم، ومع ذلك كان أهل فينيسيا يحتكرون سر هذا الاختراع لسنوات، حتى تمكنت فرنسا من كسر الاحتكار الفينيسي لصناعة المرايا عن طريق جواسيسها، وعن طريق الإيقاع ببعض الصناع الفينيسيين للانتقال والعمل في فرنسا، وتوج “لويس الرابع عشر” تلك الجهود بعمل كسوة حوائط قاعة استقبال الزوار الرئيسية في قصر فرساي بالمرايا، وحتى الآن اسمها “قاعة المرايا”، ليثبت بها عظمة وتطور وثراء فرنسا، أمام ضيوفه من الملوك والسفراء.
وحين انتقل هذا الاختراع للأسبان في ذروة توسعاتهم في أمريكا الجنوبية، استخدموه لخديعة الهنود الحمر، وكانوا يبيعون لهم هذا الاختراع العجيب الذي يحقق أحلامهم في رؤية ذواتهم، في مقابل ما يملكه الهنود من الذهب.
وفي فلورنسا كان لحركة الإصلاح الديني التي يقودها الراهب “جيرولامو سافونارولا” موقف آخر من المرايا، حيث اعتبروها نوعا من الباطل، واعتبروا اقتناءها يشي بانحرافات أخلاقية؛ ففي عام 1497 قام “سافونارولا” وأتباعه بما سموه “حرق الباطل” قاموا خلالها باقتحام البيوت للبحث عما يرونه باطلا وتطهير المجتمع منه، وكانت المرايا هي المستهدفة ومعها: مستحضرات التجميل، وألعاب التسلية والقمار وقطع الشطرنج والآلات الموسيقية، وغيرها، فاستولوا على هذه الأشياء من البيوت، وجمعوها في ساحة السيادة “Piazza Della Signoria” بفلورنسا، وأحرقوها. وبعد أعوام قلائل، ثار الناس على هذه الأفكار والأفعال المتطرفة وحرقوا الراهب ومعاونيه في نفس الساحة.
وليس بعيدا عن الآن، وأثناء طفولتنا كنا نرى في بيوت الفقراء بقايا مرايا مكسورة ومُغَبَّشَة، وفي الوقت ذاته معززة مكرمة من أصحابها ومعلقة على الجدران، أو نرى حلاقا في حي شعبي يضع مرآة صدئة على جدار في الشارع وأمامها كرسي للزبون المنتظر.
وأنت اليوم، وبعد هذه الرحلة الشاقة التي سارت فيها البشرية لتحقيق هذا الحلم، تقتني المرايا بسهولة ويسر، وتضعها في أركان بيتك ومكتبك وسيارتك وداخل حقيبتك وتجدها في الأماكن العامة ومصعد الركوب…، وتتمكن بسهولة مما لم يتمكن منه أجدادك.
ومع ذلك؛ فالمرايا حققت جزءا من حلم الإنسان في رؤية صورته؛ لأنها رؤية عابرة يمحوها انتقال العاكس عن المعكوس (الإنسان والمرآة)، والإنسان يريد أن يخلد لحظة هذه الرؤية، بتثبيتها وبتسجيلها وتوثيقها، ومن هنا بدأت رحلة حلم جديد حققته الصور الفوتوغرافية، التي حبست الزمن عند لحظة التقاط الصورة، وحفظت للإنسان ذكرياته، وسوف نستكمل معها المسيرة في المقال التالي.