يتعرض العالم لكوارث متلاحقة تهدد وجود البشرية التي أصبحت تحتاج إلى فكر جديد تبني على أساسه مستقبلها، فالفكر المادي الرأسمالي الغربي كان من أهم أسباب المشكلة، ولا يستطيع أن يقدم حلولاً لأزمة صنعها.
لذلك، يجب أن يقدم العلماء دراسات للتجارب التاريخية التي يمكن أن تساهم في بناء عالم جديد يقوم على العدل، والأمة الإسلامية تستطيع أن تضيء للبشرية طريق المستقبل بتقديم نماذج إنسانية جديدة تتحدى الجشع الرأسمالي، والنهب الاستعماري، وتقدم المثال والقدوة للبشر.
إن الأمة الإسلامية تمتلك تجارب تاريخية تشكل إلهاماً للشعوب، فتقودها بالقدوة والمثال لبناء عالم جديد.
بناء المجتمعات بقيم متميزة
أقدم لكم اليوم تجربة تاريخية تستحق أن نقدمها للبشرية بأساليب مختلفة، من أهمها الدراما، فهي تشكل أساساً لبناء منظومة قيم حضارية، وتؤكد أن الإنسان عندما يؤمن بالله ورسوله يستطيع أن يكون مثالاً عظيماً للكرم والإيثار، ويمكن أن يساهم في تحقيق تماسك المجتمعات وتوحيدها.
والتكافل الاجتماعي والتعاون والمشاركة من أهم الحلول التي يمكن أن نقدمها لمشكلة الفقر الذي أصبح يعض بأنيابه القاسية قلوب البشر، وينتهك حرمة أجسامهم ونفوسهم ويكسر قلوبهم.
تجربة الأنصار في المدينة
إن تجربة الأنصار في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنورة يمكن أن تلهم الشعوب، فهي تجربة متميزة في التاريخ، فقد ضحى المهاجرون بكل أموالهم وممتلكاتهم من أجل عقيدتهم التي كانت أعز وأغلى عليهم من أنفسهم، وتركوا من أجلها الأهل والوطن والجاه وأسباب الرزق.
لكن الأنصار استقبلوهم بحب لم يشهد له التاريخ مثالاً، وتجلى كرمهم وسماحة نفوسهم وطيب قلوبهم في مشهد لم تعرفه البشرية، فقد تسابق الأنصار لاستقبال المهاجرين، وتحمل المسؤولية برضا وكرم وبذل وسخاء وحب.
ولأن المهاجرين كانوا أقل عدداً من الأنصار؛ فلم تكن هناك وسيلة لحل المشكلة بين الأنصار إلا إجراء قرعة بين من يتسابقون لاستضافة المهاجرين لتحديد من يفوز باستضافة مهاجر، ولم يدخل مهاجر بيت أنصاري إلا بقرعة، وهذا دليل على أن كل أنصاري كان يعتبر استضافة مهاجر شرفاً عظيماً، وفوزاً وفلاحاً.
عرض الأنصار على إخوانهم المهاجرين أن يتقاسموا معهم بيوتهم وأموالهم، حتى إن أحدهم عرض على أخيه أن يطلق له إحدى زوجتيه ليتزوجها، لكن المهاجرين تميزوا بالعفة، فقبلوا من الأنصار حقوق الضيف طبقاً لأعراف العرب وتقاليهم؛ لذلك ظل المهاجرون فقراء يتطلعون إلى كرم الله الذي جاء في غزوة بني النضير.
يحبون من هاجر إليهم!
ولأن الأمر أعظم من أن نتمكن من تصويره؛ فإن الله سبحانه وتعالى تكفل بأن يقدم لنا الصورة الجميلة في القرآن الكريم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
أنزل الله سبحانه وتعالى حكمه في غنيمة بني النضير بأنها لله والرسول، وأمر رسوله بتوزيعها على المهاجرين؛ لأن هذه الغنيمة لم تكن نتيجة حرب، لكن الله قذف الرعب في قلوب اليهود فتركوا أموالهم، وحتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء.
نشاركهم في أموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة!
وهنا ظهر دور المنافقين الذين اعترضوا على ذلك، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار وقال لهم: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ؛ فكان رد الأنصار الذي خلده التاريخ: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة.
ولذلك، صور لنا القرآن الكريم الأنصار بأنهم تبوؤوا الإيمان، فأصبح الإيمان لهم هو الدار والمنزل والوطن الذي يعيشون فيه بقلوبهم وأرواحهم، وأنهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في أنفسهم على إخوانهم المهاجرين لما آتاهم الله من فضله.
أما أجمل وأعظم وصف أكرم الله به الأنصار، فإنهم «يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة».
يقول سيد قطب، رحمه الله: لأن الإيثار على النفس قيمة عليا بلغها الأنصار، بما لم تشهد له البشرية نظيراً، وأن الله تعالى وقاهم شح أنفسهم، فشح النفس هو المعوق لكل خير، فالخير بذل في صورة من الصور، بذل في المال، وبذل في العاطفة، وبذل في الجهد.
ولذلك وصفهم الله سبحانه بأنهم «المفلحون»، والفلاح مفهوم إسلامي متميز يتضمن كل معاني الفوز والخير والنجاح والانتصار.
إنهم يستحقونه بكرمهم!
والأنصار استحقوا هذا الوصف بكرمهم وطيبة نفوسهم وحبهم لإخوانهم المهاجرين وتضحياتهم من أجل دينهم وعقيدتهم، والله أكرمهم بهذا الوصف، فغاية الحياة هي الفوز برضاء الله.
والأنصار قدموا للبشرية مثالاً للكرم والإيثار وحب المهاجرين وسماحة النفس وطيب الأصل؛ لذلك يمكن أن تكرر الأمة الإسلامية هذه التجربة العظيمة.
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر: 10).
وهذا يعني أن الخير في هذه الأمة ممتد، وأنها يمكن أن تقدم كرمها وعطاءها، وأنها يمكن أن تتبع خطى أسلافها من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يدعون الله تعالى أن يحررهم من الغل للذين آمنوا، وبهذا الدعاء الجميل يمكن أن تنطلق الأمة لتقود البشرية بالقدوة والمثال، وتقدم لها نموذجاً للتكافل الاجتماعي، والكرم.