باب تسمية الإيمان بالقول دون العمل
فإنا وجدنا الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل فيها بعضهم بعضاً، وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك أنك تجد القوم صفوفاً بين مستفتح للصلاة وراكع وساجد، وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون، وكذلك صناعات الناس، لو أن قوماً ابتنوا حائطاً وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نصفه، وثالث قارب الفراغ منه، قيل لهم جميعاً بناة، وهم متباينون في بنائهم.. فهكذا الإيمان هو درجات ومنازل، وإن كان سمى أهله اسماً واحداً، وإنما هو عمل من أعمال تعبد الله به عبادة وفرضه على جوارحهم، وجعل أصله في معرفة القلب، ثم جعل المنطق شاهداً عليه، ثم الأعمال مصدقة له.. فكل هذا الذي تأولنا إنما هو على ظاهر القرآن وما وجدنا أهل العلم يتأولونه، والله أعلم بما أراد، إلا أن هذا هو المستفيض في كلام العرب غير المدفوع فتسميتهم، الكلام عملاً، من ذلك أن يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً، إذا نطق بحق وأقام الشهادة، ونحو هذا.
وقد يلزم أهل هذا الرأي ممن يدعي أن المتكلم بالإيمان مستكمل له، من التبعة ما هو أشد مما ذكرنا، وذلك فيما قص علينا من نبأ إبليس في السجود لآدم فإنه قال: (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) (ص: 74)، فجعله الله بالاستكبار كافراً وهو مقر به غير جاحد له، ألا تسمع: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) (الأعراف: 12)، فهل يجوز لمن يعرف الله وكتابه وما جاء من عنده أن يثبت الإيمان لإبليس اليوم؟!
باب من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن هناك عمل
ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعاً ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب بالله وحده وإن لم يكن هناك قول ولا عمل! وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب، ألا تسمع قوله: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) (البقرة: 136)؟ فجعل القول فرضاً حتماً، كما جعل معرفته فرضاً، ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم. ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان، وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة! ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض، إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة، والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب، ولو كان هذا يكون مؤمناً ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمناً مستكملاً الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين! فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لن يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط!
باب ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولاً بلا عمل وما نهوا عنه من مجالستهم
قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني قال: قال حذيفة: «إني لا أعرف أهل دينين، أهل دينك الدينين في النار، قوم يقولون: الإيمان قول، وإن زنى وإن سرق، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟! وإنما هما صلاتان! قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء وصلاة الفجر»، قال: «وقال ضمرة بن ربيعة يحدثه عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة قارن حديث حذيفة هذا قد قرن الإرجاء بحجة الصلاة.. على مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس ومن بعدهم من أرباب العلم وأهل السُّنة الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم، من أهل العراق والحجاز والشام وغيرها، زارين على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان قولاً وعملاً.
باب الخروج من الإيمان بالمعاصي
قال أبو عبيد: أما هذا الذي فيه ذكر الذنوب والجرائم، فإن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع:
فاثنان منه فيها نفي الإيمان، والبراءة من النبي صلى الله عليه، والآخران فيها تسمية الكفر وذكر الشرك، وكل نوع من هذه الأربعة تجمع أحاديث ذوات عدة.. قد كان الناس فيها على أربعة أصناف من التأويل:
فطائفة تذهب إلى كفر النعمة.
وثانية تحملها على التغليظ والترهيب.
وثالثة تجعلها كفر أهل الردة.
ورابعة تذهبها كلها وتردها.
فكل هذه الوجوه عندنا مردودة غير مقبولة، لما يدخلها من الخلل والفساد. والذي يرد المذهب الأول ما نعرفه من كلام العرب ولغاتها، وذلك أنهم لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه وهو كالمخبر على نفسه بالعدم. وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد من الله عليه بالسلامة. وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب، فهذا الذي تسميه العرب كفرانا إن كان ذلك فيما بينها وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه. ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: ” إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير يعني الزوج وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: ما رأيت منك خيرا قط “. فهذا ما في كفر النعمة.
وأما القول الثاني المحمول على التغليظ فمن أفظع ما تأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيدا لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب، لأنه إن أمكن ذلك في واحدا منها كان ممكنا في العقوبات كلها.
وأما الثالث الذي بلغ به كفر الردة نفسها فهو شر من الذي قبله، لأنه مذهب الخوارج الذين مرقوا من الدين بالتأويل، فكفروا الناس بصغار الذنوب وكبارها، وقد علمت ما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المروق وما أذن فيهم من سفك دمائهم، ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بدل دينه فاقتلوه»، أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد؟ وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوماً (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً) (الإسراء: 33)، فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو ولا أخذ دية، ولزمه القتل.
وأما القول الرابع الذي فيه تضعيف هذه الآثار فليس مذهب من يعتد بقوله، فلا يلتفت إليه، إنما هو احتجاج أهل الأهواء والبدع الذين قصر عملهم عن الاتساع، وعييت أذهانهم عن وجوهها، فلم يجدوا شيئا أهون عليهم من أن يقولوا: متناقضة فأبطلوها كلها!
وإن الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيمانا، ولا توجب كفرا، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله، وأشترطه عليهم في مواضع من كتابه فقال: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {111} التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة)، وقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ {4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {7} وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنين)، فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئا ولا عملت عملا، وإنما وقع معناهم هاهنا (على) نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكلموا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال: ما هو بولده وهم يعلمون أنه ابن صلبه. ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك. وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة والبر.
باب ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر بلا خروج من الإيمان
قال أبو عبيد: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لعنُ المؤمن كقتله»، وكذلك قوله: «حرمة ماله كحرمة دمه»، ومنه قـول عبدالله: «شارب الخمر كعابد اللات والعزى»، وما كان من هذا النوع مما يشبه فيه الذنب بآخر أعظم منه، وقد كان في الناس من يحمل ذلك على التساوي بينهما، ولا وجه لهذا عندي، لأن الله قد جعل الذنوب بعضها أعظم من بعض فقال: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً) (النساء: 31)، في أشياء كثيرة من الكتاب والسُّنة يطول ذكرها، ولكن وجوهها عندي أن الله قد نهى عن هذه كلها وإن كان بعضها عنده أجل من بعض.
قال أبو عبيد: كتبنا هذا الكتاب على مبلغ علمنا، وما انتهى إلينا من الكتاب، وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء بعده، وما عليه لغات العرب ومذاهبها، وعلى الله التوكل، وهو المستعان.
قال أبو عبيد: ذكر الأصناف الخمسة الذين تركنا صفاتهم في صدر كتابنا هذا، من تكلم به (!) في الإيمان هم الجهمية، المعتزلة والإباضية. والصفرية، والفضلية.
فقالت الجهمية: الإيمان معرفة الله بالقلب، وإن لم يكن معها شهادة لسان، ولا إقرار بنبوة، ولا شيء من أداء الفرائض! احتجوا في ذلك بإيمان الملائكة فقالوا: قد كانوا مؤمنين قبل أن يخلق الله الرسل!
وقالت المعتزلة: الإيمان بالقلب واللسان مع اجتناب الكبائر، فمن قارف شيئا كبيرا زال عنه الإيمان، ولم يلحق بالكفر، فسمي، فاسقا ليس بمؤمن ولا كافر، إلا أن أحكام الإيمان جارية عليه!
وقالت الإباضية: الإيمان جماع الطاعات فمن ترك شيئا كان كافر نعمة وليس بكافر شرك، واحتجوا بالآية التي في «إبراهيم»: (بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً) (إبراهيم: 28)، وقالت الصفرية: مثل ذلك في الإيمان أنه جميع الطاعات، غير أنهم قالوا في المعاصي صغارها وكبارها كفر وشرك ما فيه إلا المغفور منه خاصة. وقالت الفضلية: مثل ذلك في الإيمان أنه أيضا جميع الطاعات، إلا أنهم جعلوا المعاصي كلها ما غفر منها وما لم يغفر كفرا وشركا، قالوا: لأن الله جل ثناؤه لو عــذبهم عليها كان غير ظالم لقوله: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (الليل)، وهذه الأصناف الثلاثة من فرق الخوارج معا، إلا أنهم اختلفوا في الإيمان، وقد وافقت الشيعة فرقتين منهم، ووافقت الرافضة المعتزلة، ووافقت الزيدية الإباضية، وكل هذه الأصناف يكسر قولهم ما وصفنا به «باب الخروج من الإيمان بالذنوب» إلا الجهمية فإن الكاسر لقولهم قول أهل الملة، وتكذيب القرآن إياهم حين قال: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ) (البقرة: 146)، وقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) (النمل: 14)، فأخبر الله عنهم بالكفر إذ أنكروا بالألسنة، وقد كانت قلوبهم بها عارفة، ثم أخبر الله عز وجل عن إبليس أنه كان من الكافرين، وهو عارف بالله بقلبه ولسانه أيضا، في أشياء كثيرة يطول ذكرها، كلها ترد قولهم أشد الرد، وتبطله أقبح الإبطال.