هناك العديد من القيم التي يجب غرسها في نفوس الأبناء خلال العطلة الصيفية، وكلما كان الغرس صحيحاً في الصغر سهلت المهمة على الأهل على اعتبار أن أجهزة الاستقبال مهيأة، ولعل من أهم هذه القيم قيمة تحمل المسؤولية والاعتماد على النفس.
فمن المهم إدماج الأبناء في الأعمال المنزلية، من خلال تقسيم المهام، ومن الخطأ أن تتحمل الأم كامل المسؤولية حتى في أيام الإجازة الصيفية، وتبدأ المهام المنزلية من ترتيب غرف النوم، مروراً بتنظيف الأطباق، وترتيب الثياب وصولاً للمهام المنزلية الأكثر صعوبة.
ولا شك أن هذه الأعمال التي قد تبدو في نظرنا بسيطة لها تأثير إيجابي بالغ في نفوس الأبناء حيث تكسبهم الثقة في النفس، وتعزز من قدرتهم على تولي الأمور دون الحاجة إلى المساعدة من أحد، والأهم من ذلك أنها تؤهلهم بشكل أو بآخر لاستيعاب المهام الأكبر في المستقبل والقدرة على مواجهة تحديات الحياة.
ولا أعظم من تقريب هذه القيمة في نفوس الأبناء من اعتماد أسلوب التربية بالقدوة، فمشاركة الأب والأب في المهام المنزلية أمام أعين الأبناء يقرب إلى عقولهم استيعاب القيمة.
أزعم أن أحد أهم أسباب الخلافات الأسرية ونشوب المشكلات بين الزوجين أن الزوج ولد وعاش مدللاً، لم تنغمس يده في أي عمل يدوي، تغسل له أمه، وتكوي له أخته، وعند الزواج وبعدما أصبح مسؤولاً عن بيت وأسرة فإنه يتأفف من تأخر زوجته في المهام المنزلية من طبخ وكي ونشر وغسيل، فيصب جم غضبه عليها!
والسبب في تأففه أنه لا يمتلك الحس الحقيقي لقياس الجهد المبذول، والوقت المقدر لإنجاز الفعل، فبينما هو يعتقد أن الكي مجرد مكواة تمضي ذهاباً وإياباً على القميص في دقيقتين، تكون الآلام قد عملت عملها في ظهر الزوجة المحني، ولكنها تتناساها لكي تنجز الفعل في 5 دقائق، هي – أي الدقائق الخمس- في ميزان الزوج وقت طويل، بينما هي الوقت المناسب لإنجاز المهمة.
ولو أنه مارس الفعل بنفسه لأحسن تقدير الوقت وتقدير الفعل!
العمل المهني في أوروبا وأمريكا غير مرتبط بالمستوى الاجتماعي، فالكل يعمل بغضّ النظر عن فقره وغناه؛ لأن العمل محض «قيمة» يحرص عليها الجميع، أما في بلادنا فلا نحسن في الغالب إلا أن نخرج للمجتمعات عاهات ألفت الراحة، تتأفف من الحياة!
وليعلم كل أب يتكاسل عن دمج ابنه في الحياة مظنة الخوف عليه: اعلم أنه ليس أفضل حالاً من الملوك والأمراء الذين كانوا يرسلون أطفالهم إلى البادية ليتعلموا الخشونة واللغة العربية، ثم يعودون مؤهلين للحكم والرياسة وما دونهما من مهمات ومسؤوليات!
الإجازة الصيفية بداية رحلة العمل وتحمل المسؤولية
من الأهمية بمكان أن يدفع الأهل بالأبناء لتعلم مهنة من المهن، أو حرفة من الحرف، مع مراعاة ميول الابن وعمره وبنيته الجسدية والنفسية ليتحمل مسؤولية نفسه مادياً فضلاً عن مساعدة الأهل في ظروف المعيشة، ويعتمد على نفسه فيواجه تحديات وصعوبات الحياة بكم كبير من الخبرات، لكن الأهم من دفعه لتعلم حرفة أو مهمة حسن اختيار وانتقاء من يعمل معه، بحيث يكون قدوة، سيرته حسنة بين الناس، ومتمكناً من حرفته، إذ ليس من المعقول أن يبقى الابن في البيت نهاراً وعلى المقاهي ليلاً، لا يحسن الكسب المادي بحرفة أو مهنة، بل يحسن أن يمد يده إلى أبيه ذي الراتب المتواضع الذي يكفي متطلبات الأسرة بالكاد؟!
ونحن نتكلم عن قيمة العمل خلال الإجازة الصيفية تجدر الإشارة إلى ما يصيب بعض الطلاب من كبت وحرمان جراء حصرهم بين الدراسة والعمل الذي لا يناسب عمره وبنيته النفسية والجسدية، حيث ينعكس ذلك في تسبب شعور بالنقص لا سيما حين يدخل نفسه في مقارنة مع أقرانه.
دور «الميديا» في غرس قيمة العمل
كما تجدر الإشارة إلى دور «الميديا» بكل أنواعها في غرس قيمة العمل في نفوس الأبناء لا سيما في الإجازة الصيفية، وألا تكون عاملاً مساعداً في التنفير من المهن، فما زلت أذكر إعلان «حكاية الواد بلية» الذي يعد واحداً من أشهر الإعلانات التلفزيونية التي ظهرت في أوائل التسعينيات، برعاية «الحملة القومية لتنظيم الأسرة»، وفيه تسلط الكاميرا الضوء على طفل صغير يطل من أسفل سيارة معطلة يتم إصلاحها في الورشة التي يعمل بها على بعض الأولاد وهم يلبسون ثياباً نظيفة خالية من بقع الزيت والأوساخ التي تصيب ملابس من قرر أن يعمل في ورشة من الورش أو اضطر إلى ذلك، ويتمنى أن لو كان واحداً منهم.
وبينما هو غارق في تأمل مشهد الأولاد وهم يغدون فرحين مسرورين، يفاجأ بلكمة في وجهه من «الأسطى» صاحب الورشة التي يعمل بها ذلك الطفل، ثم يتبع اللكمة بسيل من التوبيخ، ونهر من الزجر!
هذا الإعلان وغيره ساهم -عند أبناء جيلي- في تكوين انطباع عام سيئ عن أصحاب المهن التي يلازمها اتساخ في الملابس، ونفور جماعي عن تعلم هذه المهن، وشعور بالشفقة عند رؤية أصحابها من الصبية وصغار السن!
من سوء حظي أن الإعلان ظهر في نفس السنة التي قرر والدي، رحمه الله، أن يرسلني إلى إحدى الورش، وبالطبع لم أنس الحزن الدفين الذي كان يعلو ملامح وجهي حين كان يراني الناس بملابس متسخة أثناء الإجازة الصيفية، وكمية الانزواء من نظرات الشفقة التي كانت ترمقني من هذا وتلك، فلا أملك إلا أن أتدثر بالخجل، وأفكر في عدم الذهاب مرة أخرى للعمل!
وبناء على النظرة التي صنعت بفعل فاعل، لم يكن لتعلم الحرفة في الغالب دور يذكر في مسألة تكوين الشخصية، وتعزيز الثقة في النفس وتنمية القدرات الذاتية، بل كان العامل فيها لا يفارقه الشعور بالخجل كلما لمحت عيناه أحداً من أبناء قريته أو حيه الذي يسكن به!
في المقابل، لم يكن الخطاب الديني منتبهاً لمسألة الطرح المتوازن الذي يعظم حب العمل الحرفي في نفوس المسلمين وأبنائهم؛ للمساهمة في علاج القصور الحاصل من الطرح الإعلامي والإعلاني غير الهادف والمدمر، وكأن الوعاظ لم يقرؤوا يوماً حديثاً واحداً لرسول الله يمدح فيه الأيدي العاملة، ويعلي من شأن الحرفة؟!
كثير من التجار والصناع الذين تحدثت معهم في المقابلات الصحفية بحكم عملي الصحفي يؤكدون أن نجاحهم ووصولهم إلى مستويات متقدمة في العمل لم يكن إلا بسبب انشغالهم بالأعمال الحرفية التي مكنتهم من فهم طبيعة السوق، وفهم طبائع الناس، وحسن التعامل معهم، فضلاً عن أمور أخرى لا تقل أهمية للتاجر أو صاحب العمل مثل قدرته على فهم ألاعيب «الصنايعية»، والقدرة على التمييز بين أنواع المواد الخام الداخلة في الصناعة وغيرها من الأمور المهمة.
بعيداً عن إعلان «حكاية الواد بلية»، ما زال العقل الجمعي العربي مصراً على استعمال ثقافة العيب في المهن الحرفية، حتى مع تدهور الأحوال المعيشية، وانهيار الطبقة المتوسطة في بعض الدول، ومن أبرز تجليات ذلك امتلاء المقاهي بالشباب اليافع.. المفلس!
في العالم المتقدم يعتز كل فرد فيه بمهارته في الحرف اليدوية، ويحدث الناس عنها بكثير من الفخر، وما آمله من أولياء الأمور أن يدفعوا بأبنائهم لتعلم مهنة أو حرفة بالتوازي مع مسيرته الدراسية، وما أتمناه من الإعلام تعظيم العمل الحرفي في نفوس الأبناء.