بقلم: عبد القادر محمد العماري
ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا..
إن المسلم ليشعر بالأسى والألم عندما يرى العاملين للإسلام يشتد بينهم الخلاف ويكيد بعضهم لبعض، وينتقص بعضهم بعضاً.
ترى هل يقدر هؤلاء المسؤولية الملقاة على عاتقهم؟ وهل يشعرون بينهم بخلافاتهم هذه إنما يطعنون الإسلام من الخلف ويهيئون الفرصة للأعداء للانقضاض على كل من يدعو إلى الإسلام، ويعطونهم الحجة ويمكنونهم من الوصول إلى أهدافهم في النيل من الإسلام، وإضعاف المسلمين؟ إن بعض من نصبوا أنفسهم للدعوة إلى الإسلام، واشتغلوا بأمور الدين، لم يقدِّروا المسؤولية حق قدرها، فقد ذهبوا يثيرون الجدل والخلاف مع الدعاة الآخرين، وشغلوا أنفسهم بتتبع أخطاء إخوانهم وعيوبهم، فبدلا ًمن أن يوجهوا نقدهم إلى العلمانية والعلمانيين، والملحدين والصليبيين والصهيونيين، وبدلاً من أن يقووا الجبهة الإسلامية ويتعاونوا على صد الهجوم المستمر على الإسلام من قبل أعدائه؛ شغلوا أنفسهم بالهجوم والنقد على من يرونهم ينافسونهم في الدعوة، وانصرفوا إلى التنقيب في الكتب والمرويات لتكون لهم سنداً وحجة فيما يشغبون به على من يرونهم خصومهم الأنداء، ولعل السبب في ذلك هو شعورهم بعدم استطاعتهم الوصول إلى الواجهة والمكانة التي يحتلها غيرهم، وأن البساط قد سحب من تحتهم نهائياً، مع أن العمل الإسلامي فيه متسع للجميع، وفي إمكانهم أن يتعاونوا فيما يتفقون عليه، ويعذر بعضهم بعضاً فيما يختلفون فيه، ولكن الأمر الخطير في الموضوع أن يتجرأ البعض فيزيف الحقائق وينسب للطرف الآخر قولاً لم يقله، أو اعتقاداً لم يعتقده، أو يتتبع زلات اللسان فيجعلها نكاة فيما ينسبه إلى أخيه ملقياً عرض الحائط بمواقفه في سبيل خدمة الإسلام، ويتجاهل عمله وجهاده ومؤلفاته التي هي المرجع لآرائه، إذا أراد الوقوف على فكره ورأيه.
لقد سمعت من بعض الناس أن أمثال هؤلاء لا بد وأن يكونوا مدفوعين من جهات يهمها إضعاف الدعوة الإسلامية، وإشاعة الفرقة بين الدعاة، بدليل أن نشاطهم محصوراً في أمور معينة وفي إثارة البلبلة والخلافات بين المسلمين، ولم يُعرَفوا بنشاط واضح في الدعوة الإسلامية، ولم يسبق أن تصدوا لأعداء الإسلام في خطبهم، أو كتاباتهم أو مواقفهم، وأعتقد أن هذا الاتهام غير صحيح، ورميهم به مجرد تخمين، وذلك لما نعرفه عن كثير من المنتسبين للدعوة الإسلامية قصر النظر، وضيق الأفق، وعدم الوعي بما يجب عليهم نحو وحدة الأمة الإسلامية، ولهذا فإن هؤلاء ليسوا أكثر من أناس حمقى ينطبق عليهم قول الشاعر:
يصول على الأدنى ويجتنب العداء وما هكذا تبنى المكارم يا يحيى
فهم، إذاً، حمقى مغفلون يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولو كانوا يعون المصلحة الحقيقية للإسلام لعملوا في اتجاه جمع كلمة الدعاة إلى الإسلام، ووحدوا صفوفهم في مواجهة الأعداء، الذين يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر، وستروا أخطاء إخوانهم عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “هلا سترت أخاك بطرف ردائك”، كيف وأخوك هذا لم يرتكب جرماً، ولم يقل باطلاً، بل تتبعت زلات لسانه، وجعلت من الحبة قبة، ومن الحجرة جبلاً، وكان الأجدر بك إذا لاحظت أن أخاك قد أخطأ أن تذهب إليه وتلفت نظره إلى ما لاحظته لتستمع منه ماذا يقصد من قوله، وتتأكد أنه أخطأ فعلاً، فإذا رأيت الإصرار والعناد منه على الخطأ فعند ذلك لك الحق أن تتخذ الموقف الذي تراه مناسباً، أما أن تتهجم عليه، وتسند إليه ما ينكره الدين ويأباه العقل لمجرد كلمة لم تتبينها، ومقالة لم تقف على أولها وآخرها، وتذهب بها وكأنك عثرت على صيد سمين وربح كبير؛ إن هذا الموقف لا يليق بمسلم فضلاً عن طالب علم، كما لا يليق بشخص متحضر يعيش بين أهل الثقافة والفكر، إنه موقف لا تستسيغه العقول السليمة، وتنفر منه الأذواق الرفيعة، ويستنكره الأسوياء من الناس، ولا يرضاه الله لعبده الذي خلقه في أحسن تقويم وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
بل هذا من الحقد الذي يمقته الإسلام، والحقد يأتي من الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي، فيرجع إلى الباطن فيحتقن فيصير حقداً، وعلامته دوام بغض الشخص واستثقاله، والنفور منه، فهو ثمرة الغضب، ثم يكون الحسد الذي هو من نتائج الحقد، كما يقول الإمام ابن القيم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء”، ويقول عليه الصلاة والسلام: “لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً”، ويقول: “إن الحسد يأكل الحسانات كما تأكل النار الحطب”، وفي الحديث: “يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فطلع رجل فسئل عن عمله، فقال: إني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه”، وروى أن الله تبارك وتعالى قال: “الحاسد عدو نعمتي، متسخط لقضائي، غير راض بقسمتي بين عبادي”.
والتحاسد، كما يقول ابن القيم، لا يكون بين علماء الدين إلا إذا قصدوا بالعلم المال والجاه، فالدعاة المخلصون لا يرون بينهم تناقضاً، وإنما يكمل بعضهم بعضاً، وكل منهم يقوم بالعمل من أجل الإسلام في مجاله ويتعاونون على البر والتقوى، ويعملون كفريق واحد متناسق، ويعتبر كل منهم نفسه على ثغرة يحرص ألا يؤتى من قبلها، وكل منهم يعترف بما للآخر من فضل، ولا يشغلوا أنفسهم بالجدل، ففي الحديث: “ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”، وفي حديث آخر: “إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم عني مجلساً يوم القيامة المتشدقون والمتفيهقون الباغون للبرآء العثرات”.
ونحن نأسف أن يتهجم بعض الناس على الداعية الإسلامي د. يوسف القرضاوي، وينسبون إليه ما لم يقله، مع أن د. القرضاوي معروف بكتبه ومواقفه أنه رائد في الجهاد من أجل الإسلام، ولا تحل ببلد إسلامي إلا وترى له أثراً في دحر العلمانية والشيوعية، وكلما أعلن عن محاضرة له في بلد إلا وامتلأت القاعات والشوارع المحيطة بالمكان الذي تلقى فيه المحاضرة بآلاف المسلمين؛ لما فيه من علم وفقه وفكر، فهل يقابل هذا العمل الإسلامي العظيم بالجحود والنكران من مسلم يريد للإسلام خيراً؟!
إن اتهام الشيخ القرضاوي أنه ينكر الجهاد اتهام باطل، فإن الشيخ ما انفك يدعو إلى الجهاد في محاضراته ومؤلفاته وخطبه، وعشرات الخطب التي استمعنا إليها يدعو فيها إلى الجهاد في فلسطين وأفغانستان وكل بلد إسلامي ابتلي بالاحتلال الأجنبي، فهو يدعو إلى الجهاد بكل الطرق والوسائل، أما ما يقال عن خطبته الأخيرة فقد كان يتحدث عن وجوب تبليغ الإسلام إلى كل بلاد الدنيا باستغلال الوسائل العصرية من إذاعة وتلفزيون وصحف ونشرات.. وغيرها، وفي هذه الأحوال لا حاجة للسيف فيها، وليس معنى ذلك إلغاء الجهاد بالسيف عند الحاجة إليه، كما في حالة فلسطين وأفغانستان.
وما ينسبه إليه أحد الكتَّاب أنه قال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرام، لا أعتقد أن عاقلاً يصدق ذلك، بل إنه إذا أراد أن يقول ذلك لم يستطع أن يقوله، وربما ذكر ما قاله الفقهاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقيد بألا يؤدي إلى منكر أعظم، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان، ونسمع كثيراً ما يستشهد الشيخ القرضاوي في هذا المجال بما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية عندما مر على مجموعة من التتار يشربون الخمر، وأراد أحد مرافقيه أن ينهاهم، قال له شيخ الإسلام: دعهم فإنه إذا تركوا الخمر سيذهبون لقتل الناس، وقتل الناس أعظم من شرب الخمر، فإن القول بأن القرضاوي قال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرام، يكون إما من سوء الفهم أو من باب تحريف الكلم عن مواضعه.
أما موضوع البيان الذي أصدره العلماء بالقاهرة فيما يتعلق بالجماعات الإسلامية، إني أشهد بأني ما أن سمعت هذا البيان وفيه اسم الشيخ القرضاوي حتى اتصلت به هاتفياً وسألته عن حقيقة هذا البيان؛ فتبرأ منه، وبيَّن لي ظروف صدور هذا البيان، ثم أوضح موقفه مفصلاً في جريدة “الشعب” المصرية، وأنه أبى أن يوقِّع عليه وانسحب من الاجتماع الذي دعا إليه وزير الأوقاف المصري، ثم ما شهد له به الشيخ صلاح أبو إسماعيل، وهو من هو صاحب المواقف المشرفة والشجاعة في مصر، وحامل لواء الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب المصري وخارجه، الذي جعله الله شوكة في حلق الطغيان.
وأخيراً، فإننا ندعو الله أن يوحّد كلمة المسلمين على العمل بكتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعتصموا بحبل الله، ونسأله تعالى أن يطهر قلوبنا من الغل والحسد، وألسنتنا من الكذب، وأن يغفر لنا خطايانا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم؛ (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر: 10).
_______________________________
العدد: (918) ص48-49 – بتاريخ: 25 شوال 1409هـ – 30 مايو 1989م.