فيما كان الفرنسيون مشغولين بالدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، في 7 مايو، أصدر وزير الداخلية “شارل باسكوا” قراراً بمنع كتاب “الحلال والحرام في الإسلام” للدكتور يوسف القرضاوي، علماً بأن هذا الكتاب صدر باللغة الفرنسية عام 1992م، ووجد إقبالاً كبيراً لدى الشباب المسلم الناطق بهذه اللغة، كما يعتبر الكتاب من المراجع المهمة التي يعتمدها المختصون في الشؤون الإسلامية.
وفي اتصال هاتفي أجرته “المجتمع” مع “أندري داميان”، مستشار وزير الداخلية المكلف بالشعائر التعبدية، رئيس بلدية فارساي، بهدف الحصول على مزيد من التوضيحات بشأن قرار المنع، صرح “داميان”، في تعليق على سؤال حول أسباب منع الكتاب فقال: إن الكتاب لا يمثل دعوة للجريمة، ولكنه يدوس بعض المبادئ الجمهورية؛ مثل المساواة بين الجنسين، اقرؤوا إذن (ص207).
وحينما رجعنا إلى الصفحة التي استشهد بها المسؤول الفرنسي كمبرر لمنع كتاب د. القرضاوي، وجدنا الكاتب في هذه الصفحة يتحدث عن معاملة الرجل لامرأته من وجهة نظر إسلامية وبالتحديد في حال نشوزها، والترجمة جاء فيها بأنه على الرجل في هذه الحالة استعمال كل الوسائل الممكنة بداية بالكلمة الطيبة، والموعظة والخطاب المقنع والنصائح الحكيمة، وإذا لم تنجح هذه الطريقة فعليه أن يهجرها في المضجع من أجل أن يوقظ فيها الفطرة النسائية فتطيعه من جديد من أجل تكون علاقتهما نزيهة، وإذا تبين أن هذا الأمر غير مجدٍ يحاول إصلاحها باليد مع تجنب تعنيفها أو ضربها على الوجه.
من خلال ما تقدم يمكن اعتبار المحور المتعلق بتصور الإسلام للعلاقة بين الرجل والمرأة ونظرة الدين الإسلامي للمرأة عموماً هو الذريعة التي تمسكت بها الإدارة الفرنسية لمنع الكتاب المعني، والجدير بالذكر أن هذا الموضوع لا يخلو أي اجتماع أو مقال يتناول علاقة الإسلام بالغرب من طرحه ومناقشته، وبالرغم من كل محاولات التفسير والتحليل لفلسفة الإسلام في هذا الجانب، يبقى الطرف المقابل مصراً على اتهام المسلمين، مع عدم التجرؤ في الغالب على اتهام الدين الإسلامي بعينه، بإذلال المرأة وإهانتها والهيمنة عليها باسم “قوامة الرجل”، وعلى التغافل –مقابل ذلك– عن وضع المرأة في الغرب الذي لا تحسد عليه، وتكفي الإشارة إلى الملفات الخاصة التي تقدمها وسائل الإعلام والجمعيات المختصة حول سوء معاملة المرأة الغربية، والمظالم التي تعانيها سواء في علاقتها مع الجنس الآخر، أو في مشاركتها في الحياة العامة من ضعف تشريكها في مناصب القرار، وانخفاض رواتب النساء العاملات، وغير ذلك من أنواع سوء المعاملة.
وفيما يتعلق بالخلفية وراء قرار منع كتاب “الحلال والحرام في الإسلام” هل هي ذات طبيعة سياسية؟ وإجابة عن السؤال حول علاقة هذا القرار –من حيث توقيته– بالظرف الانتخابي الذي تعيشه فرنسا، صرح “داميان” لـ”المجتمع” بقوله: إن هذا القرار تم التوقيع عليه في يناير الماضي، وليس له أي علاقة البتة بموضوع الانتخابات، وأضاف أن الإسلام ديانة مثل بقية الديانات، وأن التوقيت ليس مجرد صدفة للرزنامة الإدارية.
ومعروف أن نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية أبرزت تقدماً ملحوظاً لأقصى اليمين الذي يرأسه “جون ماري لوبان”، زعيم الجبهة الوطنية، الذي حصل على 15% من الأصوات؛ مما دفع بعض الملاحظين إلى اعتباره الحكم الرئيس في الدورة الثانية، وفي هذا الإطار يتنزل القرار القاضي بمنع كتاب د. القرضاوي، فمهما كانت المبررات المقدمة فإن عامل الزمن واختيار توقيت إصدار القرار يخضع إلى حسابات سياسية من أجل كسب أصوات ناخبي الجبهة الوطنية في الدورة الثانية الحاسمة، وباعتبار أن الحكومة الحالية ذات توجه يميني، وتصب في خانة المرشح اليميني “شيراك”، فإن الضجة حول إصدار القرار بمنع كتاب حول الإسلام من طرف وزارة الداخلية تهدف ضمنياً إلى تقديم خدمة لـ “شيراك” عن طريق تهيئة المناخ للناخبين المترددين بالتصويت لهذا الأخير بطرح ورقة الإسلام والتصدي للفكرة الإسلامية، خاصة وأن المجتمع الفرنسي تسوده تخوفات جمة من الوجود الإسلامي من جراء التشويه الإعلامي ومواقف بعض السياسيين.
ومما يؤكد الخلفية السياسية وراء قرار منع كتاب “الحلال والحرام في الإسلام”، أن “داميان” صرح بأن وزارة الداخلية لا تنوي منع كل كتب د. القرضاوي، وإنما اختارت هذا الكتاب لأنه لقي نجاحاً كبيراً، فهو إجراء بيداغوجي، وهنا بيت القصيد، فهذا الكتاب أصبح ممنوعاً في كل التراب الفرنسي لمجرد كونه وجد إقبالاً كبيراً لدى شباب الجيل الثاني من المسلمين الفرنسيين، بحيث يمكن القول: إن هذا الكتاب ضحية لنجاحه في الأوساط الإسلامية، وهذا ما يسبب مصدر إحراج للإدارة الفرنسية التي تتابع باهتمام وقلق شديدين تنامي الوعي الإسلامي في هذه الأوساط، بالإضافة إلى تزايد عدد معتنقي الدين الإسلامي من الفرنسيين أنفسهم، ومطالعة الكتب الإسلامية باللغة الفرنسية من المداخل الأساسية لهذا الوعي ولهذا الإقبال على الفكر الإسلامي.
وقد تبين من خلال نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، أن تفوق المرشح الاشتراكي “ليونال جوسبان” على بقية منافسيه يعود بدرجة كبرى إلى أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين، ومنع الكتاب المرجع الذي يعتمده هؤلاء في حياتهم اليومية عمل قد يكون المقصود منه أن الحكومة اليمينية التي ستنسحب بعد أيام لتحل محلها حكومة جديدة مطابقة لنتائج الانتخابات الرئاسية، أرادت أن تترك بصماتها عبر آخر القرارات التي تتخذها بيّن أن قوة الضجة التي أثارها منع هذا الكتاب دفعت الوزارة المعنية لإعادة النظر في قرارها.
فقد صرح “داميان” لـ “المجتمع” إجابة عن سؤال حول آخر التطورات في هذا الموضوع بقوله: إن الوزير “باسكوا” وصله طعن في القرار من عميد مسجد باريس، وأن القضية سينظر إليها من حيث مضمونها، ويجب الانتظار بعض الوقت لكي يفحص الوزير هذا الطعن.
وسألته “المجتمع” في أي اتجاه ستكون إعادة النظر في القرار، حسب رأيكم، في اتجاه التراجع عنه أو تثبيته أو تعديله؟ فأجاب: المسألة تحت الدرس، ولا يمكنني أن أسبق قرار الوزير الفرنسي الذي أكد فيه إعادة النظر بالقرار بأن رد الفعل على منع الكتاب كان أقوى مما كانت تتصوره الإدارة الفرنسية، ذلك أن الاحتجاجات لم تكن من الطرف الإسلامي فحسب، وإنما أيضاً من شخصيات محايدة بل وغربية، حيث لوحظ نوع من التحول في اتجاه الموضوعية من طرف بعض وسائل الإعلام الفرنسية (انظر: ترجمة مقال صحيفة “لوموند”، أو أهم ما جاء فيه).
وحتى لا تظهر الحكومة في مظهر المتراجع، تمت تغطية مسألة إعادة النظر بفحص الطعن المقدم من مسجد باريس، وبذلك لا تكون المبادرة من الحكومة –على الأقل على المستوى الظاهري– إضافة إلى التركيز على مسجد باريس وإعطائه مزيداً من المصداقية بهدف سحب البساط من تحت اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، علماً بأن “شيراك” –المرشح للرئاسة من اليمين– أبدى في الأشهر الأخيرة اهتماماً خاصاً بهذا المسجد وبالعاملين فيه، وقدم لعميد المسجد مبلغاً مهماً لترميم المسجد، والتأكيد على ذكر الجهة التي جاء منها الطعن في القرار يندرج في إطاره ربح أصوات كل الجمعيات والمنظمات التابعة لهذا المسجد في ظرف انتخابي حساس.
وللوقوف على استغلال نقطة تزكية الجهة الممثلة للمسلمين في فرنسا، فقد صرح عبدالله بن منصور، الأمين العام لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، لـ “المجتمع”، حول قرار منع كتاب “الحلال والحلام” بقوله: “نحن نستنكر هذا القرار المبني على العداء للإسلام والمسلمين، فالكتاب ليس فيه شيء، وهو أكثر الكتب اعتدالاً، فلو أخذنا الكتب اليهودية أو النصرانية التي تتحدث عن وضع المرأة لكان من المفروض أن يدخل أصحابها إلى السجن وليس أن تمنع فقط، ولو أخذنا أيضاً معاملة “باسكوا” نفسه للمجتمع الفرنسي لكان من المفروض أن يجد نفس المعاملة بسبب سياسة التمييز التي ينتهجها”.
وأضاف بقوله: “ويبدو أن هذا القرار جاء بنصيحة من “جون كلود بارو”؛ لأن كتاب “الحلال والحرام” ناجح جداً، ولأن د. القرضاوي له سمعة طيبة بحمد الله، وقد قام الاتحاد بنشر كتبه وأشرطة محاضراته ويجد قبولاً لدى الشباب، وهذا يزعجهم جداً، بالإضافة إلى مشاركة د. القرضاوي في مؤتمر الحوار، في أكتوبر الماضي، حول “علاقة الإسلام بالغرب” بباريس، واستطاع أن يقنع الحاضرين بمفاهيم الإسلام الراقية في هذا الجانب، وكان أن تهجم البعض من غير المسلمين في هذا المؤتمر على “جون كلود بارو”، مستشار وزير الداخلية لشؤون الهجرة، (وصاحب الكتب المناوئة للفكر الإسلامي).
فانتقم بمنع كتاب د. القرضاوي الذي ترجم إلى الفرنسية منذ أكثر من 6 سنوات، وصدر بالعربية منذ أكثر من 20 عاماً، وترجم إلى أكثر من 50 لغة، وسنقوم بإرسال رسالة استنكار إلى وزارة الداخلية احتجاجاً على هذا القرار”.
وحول مشاركة د. القرضاوي في المؤتمر المشار إليه، سألت “المجتمع” مستشار وزير الداخلية الفرنسي عن رأيه في شخص صاحب الكتاب الممنوع في كل التراب الفرنسي؛ فذكر بأنه لا يعرفه وأنه لم يلتق به.
من هذا المنطق يمكن القول: إن عوامل عديدة متداخلة سياسية وأيديولوجية ونفسية ساهمت في قرار المنع في هذا التوقيت بالذات، بيد أنه بالرغم من أن القرار نص على الكتاب المعني “من شأنه أن يحدث مخاطر للأمن العام بسبب لهجته المعادية للغرب بشكل واضح، وبسبب الأطروحات التي يتضمنها والمخالفة للقوانين والقيم الجمهورية الأساسية”، بالرغم من ذلك فإن الضجة التي أثارها منع الكتاب تعد مؤشراً لدخول الوجود الإسلامي في الغرب عموماً، وفي فرنسا خصوصاً، مرحلة جديدة من الفعل والتأثير على الساحة بعد مرحلة إثبات الذات.
_________________________________
العدد (1149)، ص26-28 – بتاريخ: 9 ذو الحجة 1415ه – 9/5/1995م.