أيها التاريخ، حدثنا عن وقفتك يوم «بدر» في رفق، وحب، وإعجاب عند الفتى عُمَيْر بن أَبي وقَّاصٍ رضي الله عنه(1)، ولو أنصفت أيها التاريخ لقلت: لقد أكرهني عمير على الوقوف عنده يوم «بدر»، وأفسح لنفسه مكانًا في ذاكرتي الوسيعة، وكأننا بالتاريخ الحافظ الأمين وهو يعود في ذاكرته قليلًا ليقول: بكَّرَ(2) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى اتباع الحق، حيث قال: «لقد أتى عليَّ يوم كنت ثلث الإسلام»؛ أي أنه كان ثالث من أسلم، فقد قيل أيضًا: إنه أسرَّ إسلامه فترة.
وكان إسلام سعد دافعًا إلى تبكير أخيه عمير إلى اعتناق الدين، حيث أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما مع الأولين، وإلى المدينة وهو دون الرابعة عشرة هاجر مع المهاجرين، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عمرو بن معاذ، ووصل الإسلام إلى أعماق نفس عمير فأخلص له، حتى عرفته المدينة محبًا للدين حب عطاء غير أخَّاذ، ولا يبتغي من ورائه في الدنيا ثمنًا، إنَّـما ثمنه الجنة.
وفي يوم «بدر»، وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسوِّي صفوف الجيش بقدح(3) في يده، ويستعرض الرجال، جعل عمير يتوارى، ولا يكاد يتوارى هنا حتى يمضي ويتوارى هناك، ولمحه أخوه سعد قلقًا متحيرًا فسألَهُ: ما لك يا أخي؟!
فأظهرَهُ عميرٌ على مكنونِ(4) نفسه وعيناه تروح وتجيء: أخاف أن يستصغرني رسول الله فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة!
ألم نقل: لقد أخلص للإسلام، وإن الإسلام قد وصل إلى أعماق نفسه؟! وها هو الآن يطمح إلى البذل من أجله، ولو كان هذا البذل قبل أوانه.
لذا، لمَّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يردَّ أتُرَابَهُ(5) ونَظَائِرَهُ(6) لم يَسَعْهُ ذلك إلا محاولة التواري عن بصره الشريف!
ولئن تأملنا المعنى المخبوء وراء سعيه فسوف نستشعر شيئاً غير ما يستتر خلف الألفاظِ التي تدورُ في الأفواه وتقرع الأذان فحسب، إنهُ أثر الإسلام البيِّن في القلوب، إنها صبغته الجديدةُ التي قطعت الصلة بين تلكم القلوب وبين الجاهلية التي كانت تملؤها بحب الحياة وجعلتهم سادة لدنياهم بعد أن كانوا عبيداً لها.
إذاً، فالشهادة كانت أملاً تهفو(7) إليه نفسه، ويصبو(8) إليه قلبه، وإذا بدا له حثَّ إليه الخطى ولهث خلفه، وها هي الحرب دقت طبولها، وتراءى له أمله بين تفاصيلها، فراح يلتمس إليه السبيل، ويتوارى عن أعينِ النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن رآه النبي وحدث ما كان يَتَوقَّاهُ(9)، وردَّه ووقع ما كان يخشاه، فاستشعر حسرة لا يماثلها إلا ما استشعره من حزن حيث وجد الأمر النبوي يَنْأى(10) به عن أمله أو يَنْأى بأمله عنه، وكان عمير موقنًا بأنه لن يصنع صنيعاً يُنيلُ الإسلام كسباٍ أزكى ولا أعزّ من الجهاد، ولن يصنع صنيعاً يُنيلُ نفسه كسباً أزكى ولا أعزَ من الشهادة فبكى، أحسَّ ذلكَ بقلبه وعقله فبكى، أحسَّ ذلك بروحه وضميره فبكى، ويمسح غير مرة عينيه اللتين لا تجفَّان من الدمع، ولمّا تنامى أمره إلى النبي لم تدم هذى الحال به طويلًا، فقد رقَّ صلى الله عليه وسلم له، وأجازَهُ للقتال.
تمنى عمير وسعى، وجرى الأمر على ما تمنى وسعى، ووضعه في مكانه بين البدريين؛ لأن هوان النفس على النفس، وهوان الدنيا على الإنسان، وتمنى الشهادة ليُعَدّ من أهم ما أفرزته العقيدة الإسلامية وقتذاك في نفوس المسلمين.
وراح عمير يتجهّز للقتال ويهزّ سيفه كما الأبطال، وكانت حمالة السيف طويلة فربطها له أخوه سعد كيما تناسب قامته القصيرة.
ودارت الحرب مكشرة عن أنيابها، ورمى عمير بنفسه بين غمراتها، ينادي بحماسة وإلحاح إحدى الحسنين نصراً منها أو شهادة بها، ودفعته شجاعته للتصدي لصنديد قريش عمرو بن عبد ود، وكان عمرو فارساً شهدت الصحراء بفروسيته، والحروب بشجاعته، والنساء بغلظته، والأطفال ببشاعته، فقد قيل: إن المرأة كانت تخيف ولدها الذي يأبى النوم قائلة: نم وإلا أتيتك بعمرو بن ود!
ولكن عميرًا تصدَّى له سالكًا مسلكًا يُلائم طبيعته الشجاعة التي بلغت أقصى آماد الشجاعة.
كان عمير في السادسة عشرة تقريبًا، وما تصدَّى لعمرو بن عبد ود إلا لأنَّ للعقيدة القوية آيات، وإنَّ فعله ليدفع الأفئدة إلى إكباره، ويترك فيها أعظم الأثر بإجلاله، وكان عمير أشجع من خصمه، وكان خصمه أقوى منه، كان عمير يقاتل بشجاعته وإخلاصه وغايته، وكان خصمه يقاتل بقوته وعنفه وخبرته كما عرفتْه ساحات الحروبِ، وضربَ ابنُ عبد ود عميراً ضربة انسلتْ على إثرها منه الحياة، وسقط راضي القلب، قرير العين، مطمئن الضمير، سقط أصغر شهداء «بدر» بعدما دافع عن الإسلامِ ناشداً غايته، بقدر ما أمكنه عمره وأتاحت له قوته، سقط خال النبي صلى الله عليه وسلم.
أجل، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أخاه سعدا يقول: «هذا خالي فليُرني امرؤ خاله»(11).
كان سعد من بني زُهرة، وكان جده أهيب بن مناف عم السيدة آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمير أخا سعد وبذات المعنى يكون خال النبي صلى الله عليه وسلم، لذا نقول: سقط خال النبي، وتطايرت آخر أنفاسه كما يتطاير عبير الزهرة حين قطافها، وكما ينشد العصفور عشه فوق الأغصان، نشد عمير مقعده في أعالي الجنان.
يا عمير، من أي طراز البشر كنت؟!
ولئن أجبنا لقلنا: كنت من طراز أخيك سعد.
ورضي الله تعالى عنك وأرضاك، فقد كنت تدرك دورك ورسالتك وعلى أي طريق تسير، وكنت تعلم مهمتك وغايتك وإلى أين المصير.
وهنيئاً لك، فقد كان لك طريق مرسوم سعيت بصدق عليه، وهدف معلوم حثث خطاك إليه.
________________________
(1) الإصابة (6072)، الاستيعاب (2019)، الثقات (ج3/ 298)، تجريد أسماء الصحابة (ج1/ 225)، أسد الغابة (4095).
(2) اعتنقه في سنٍّ مبكرة.
(3) قدح: سهم.
(4) ما يخفيه داخل نفسه.
(5) الأتْرابُ: جمع تِرب؛ وهو المماثل في السن، وأكثر ما يستعمل هذه اللفظ في المؤنث.
(6) النَظَائِرُ: جمع نَظِير؛ وهو المشابه والمساوي في السن والجسم والسلوك.
(7) يُسرع خفق نفسه وقلبه إلى الشهادة.
(8) يحنُّ ويتشوق.
(9) يحذره.
(10) يبتعد.
(11) حديث صحيح، أخرجه الترمذي (3752)، وابن الملقن في البدر المنير (7/ 279).