إن التعبير الأدق الذي يصف نظاماً ما يُسقط الحدود بين الحكومات الكبرى والأعمال الكبرى ليس الليبرالية أو الرأسمالية، بل المؤسساتية، ومن المميزات الرئيسة التي تتصف بها المؤسساتية التحويلات الضخمة للثروات من القطاع العام إلى يد القطاع الخاص، وهي عملية تترافق غالباً مع ازدياد هائل للدين واتساع كبير ومتزايد للهوّة بين أصحاب الثراء الفاحش وضحايا الفقر المدقع.
كان ميلتون فريدمان المرشد الكبير لحركة الرأسمالية غير المقيدة، والرجل الذي يعود إليه الفضل في وضع نظام الاقتصاد العالمي المعاصر السريع العجلة.
وقد تمثل مفهوم فريدمان للإصلاح الجذري في وجوب استغناء الحكومة عن إنفاق جزء من بلايين الدولارات المخصصة لإعادة الإعمار على ترميم أنظمة التعليم الرسمي القائمة وتحسينها والاستعاضة عنه بتقديم قسائم نقدية كافلة للمواطنين، يقومون بإنفاقها في مدارس خاصة تمولها الدولة وتتوخى إدارة العديد منها الربح، وقد كتب فريدمان في هذا السياق: من الحيوي أن يكون هذا التغيير إصلاحاً دائماً وليس مجرد سد مؤقت للهوة.
وهكذا عمل فريدمان وأتباعه على مدى أكثر من ثلاثة عقود على تعزيز تلك الإستراتيجية عن طريق انتظار وقوع أزمة كبيرة يُعمد في أعقابها إلى بيع أجزاء صغيرة من الولاية (نيو أورلينز) للاعبين من القطاع الخاص، بينما يكون المواطنون لا يزالون في حالة من الذهول إزاء الصدمة ويُسارع بعدها إلى جعل تلك الإصلاحات دائمة.
وقد أفصح فريدمان، في إحدى كتاباته، بلاغة عن جوهر الخطة التكتيكية الشافية والمريبة للرأسمالية المعاصرة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه مبدأ الصدمة.
وقد قال فريدمان، في هذا الإطار: وحدها الأزمة، سواء أكانت الواقعة أم المنظورة، هي التي تُحدث التغيير الحقيقي، فعند حدوث الأزمة تكون الإجراءات المتخذة منوطة بالأفكار السائدة.
ولذا، قام فريدمان وأتباعه على مدى ثلاثة عقود باستغلال منهجي للحظات الصدمة في بلدان عدة، من أبرزها: أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث برزت فرصة أمام الأيديولوجيا التي نشأت في الجامعات الأمريكية وتعززت في مؤسسات واشنطن، لأن تعود إلى موطنها.
واغتنمت إدارة بوش على نحو فوري الهلع الذي زرعه الهجوم في النفوس، ليس فقط لشن حرب على الإرهاب، بل لضمان أن تكون هذه الحرب مغامرة هدفها تحقيق أرباح شبه كاملة وصناعة حديثة الولادة تبث الحياة من جديد في الاقتصاد الأمريكي المضطرب.
وقد برز اقتصاد جديد واضح المعالم في خضم تجارة الأسلحة وجنود القطاع الخاص وإعادة الإعمار الهادفة إلى تحقيق الأرباح وصناعة الأمن القومي الأمريكي كنتيجة لنمط معالجة الصدمة الذي انتهجته إدارة بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر.
صُمِّم هذا الاقتصاد الجديد في عهد بوش، لكنه بات اليوم موجوداً بمعزل عن إدارة أي رئيس قد يأتي وهو سيبقى راسخاً إلى حين تُرصد الأيديولوجيا السيادية التي تدعمه وتُعزل وتُقاوم.