منذ عقود، شرعت العديد من دول العالم في اتخاذ إجراءات للمحافظة على حقوق الأجيال القادمة، عبر تدابير سياسية واقتصادية واستثمارية، وتفوقت بعضها في تقديم نماذج نجاح بهذا الشأن، بل أصبح التميز في اتخاذ تلك الإجراءات ومثيلاتها أحد مؤشرات التقدم، فالدولة الناجحة هي التي تترك لأجيالها القادمة رصيدًا من الإنجازات، يوفر لها سبل الدعم، حتى تكتمل مسيرة الأجداد، ويستلم الراية جيلٌ بعد جيل، وهذا بلا شك دور رئيس للدول، بدلًا من دوامات الديون التي ضربت العالم، ويدفع فاتورتها جيل لم يستفد بها في أغلب الأحيان.
مصطلح «حقوق الأجيال القادمة» ليس حديثًا حداثة تلك المحاولات التي أشرنا إليها أعلاه، لكني أري أن صاحب الفضل والسبق في إقراره وترسيخه هو الفاروق عمر أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين، وهو قبل ذلك الفقيه العبقري، والإداري المتفرد، فقد قدم في كثير من المناسبات نموذجًا للحاكم الواعي المهتم بشؤون رعيته، صاحب البصيرة النافذة في الرأي والحكم والفُتيا، من بين هذه المناسبات، ما ورد عنه في أمر تقسيم الفيء بعد أن فتح الله عليه أرض فارس والعراق.
تقسيم أرض «السواد»
بعد أن أتم الله على المسلمين فتح أرض العراق، بعد جهدٍ جهيد في عهد الصديق أبي بكر، ثم الفاروق عمر، كان الفتح كبيراً، عظيم الأثر، فالمسلمون أمام أراض شاسعة، أطلقوا عليها سوادًا لنضرة مزارعها، ووفرة غلتها، وانقسم المسلمون حيالها إلى فريقين؛ فريق يرى وجوب قسمة الغنائم والأرض على المقاتلين، وفي مقدمتهم بلال بن رباح، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وحجتهم في ذلك قول الله تعالى في سورة «الأنفال»: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال: 41)، فكانت هذه الآية حجتهم في الطلب من عمر بقسمة الغنيمة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر الصديق.
إلا أن الفريق الآخر، وعلى رأسهم عمر، رأوا ألا تقسم الغنيمة استنادًا إلى آيات الفيء بسورة «الحشر»: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: 7)، فأوضح عمر أن ما ورد في الآيات ترتيب مقصود يأتي في مقدمته (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8)، هؤلاء المهاجرون الذي آمنوا بالإسلام أولًا، ثم (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، وهؤلاء هم الأنصار الذين أووا ونصروا، ثم (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر: 10)، وهؤلاء هم المسلمون التابعون وتابعوهم إلى قيام الساعة.
ولما اختلف كبار المهاجرين على هذا الفهم، جمع عمر للاستشارة عشرة رجال من الأنصار، فلما اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «إني لم أزعجكم إلا لأن تشركوا في أمانتي وفيما حملت من أموركم فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق.
قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين.
قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وأني أعوذ بالله أن أركب ظلمًا، لئن كنت ظلمتهم شيئًا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئًا للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام -كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر- لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟
فقالوا جميعًا: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت.
وفي مقام الرأي الذي مال إليه يقول عمر قوله المشهور الذي صححه البخاري: «لوْلَا آخِرُ المُسْلِمِينَ، ما فَتَحْتُ قَرْيَةً إلَّا قَسَمْتُهَا بيْنَ أَهْلِهَا، كما قَسَمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيْبَرَ».
أوضحت هذه الرواية سبق عمر بن الخطاب، الذي سجله بحروف من نور، بجوار ما سجله في مواقف أخرى، كلها تصلح أسانيد ودلائل تأتي في قمة علوم الإدارة ونظريات السياسة ومرجعيات الاقتصاد التي توصل لها العقل البشري بعد قرون، فالأهداف الاقتصادية التي تغيَّاها عمر تتجلى في امتلاك الدولة قدرات الإنفاق عبر استثمار الأرض وتحصيل الضرائب، وزيادة الإنتاج واستغلال كافة الموارد، كما أن الأهداف الاجتماعية حاضرة بقوة، ففي تحول المقاتلين الذين ينهضون بمهام الحفاظ على الدولة والدفاع عن أهلها إلى مزارعين ضررٌ عظيم، تتحول وجهة الدفاع فيها من دفاع عن الدولة والناس إلى دفاع عن المصالح والمغانم وحدود الأملاك.
إلا أن الغاية الكبرى التي وفق لها المسلمون وأقروا عليها عمر، تكمن في حبس الأرض ووقفها على الأجيال القادمة من الذرية ومن يأتي بعدهم.