تتمة لما ذُكر حول الركائز الإيمانية المعينة على دفع الإحباط والتثبيط لتحقيق بناء الشخصية المسلمة المثال وما ينسحب على ذلك من أوصاف تلحق بالفهم والسلوك هي:
3- إدراك الفرق بين التسليم لله تعالى والاستسلام المتخاذل:
التسليم لله تعالى في أقداره نوعان:
– استسلام قهريّ اضطراري: من حيث كونك مخلوقًا لله تعالى مملوكًا له مأمورًا بأمره، وهذا يجري على كل مخلوقات الله تعالى، يستوي في ذلك من آمن أو كفر، ومن رضي أو سخط.
– والنوع الثاني تسليم شرعيّ طواعية: من حيث كونك مؤمنًا آمنت بالله تعالى ورَضِيته ربًا، وعلمتَ صفاته وفهمت عنه سننه، فأسلمتَ إليه نفسك وأمرك ثقة به وطمأنينة إليه، فهذا تَخَلٍّ إرادي واعٍ مقصود عن إرادتك، لأنك تُودِعها في إرادة أعلى، هي إرادة ربّك الذي آمنت به وارتضيتَه إلهك.
إن التسليم لله تعالى لا يدعو أبدًا للتخاذل والإخلاد للأرض، بل هو الباعث على القوة والثبات وحسن العمل، ذلك أنَّ تسليم الرضا لله تعالى يعني سلامة قلب المسلم وصدره تجاه ربه، وفهمه لطبائع هذا الوجود وسننه وغايته كما أراده الله تعالى وإذعانه لذلك، فلا يسخط على كون هذه الدار دار اختبار ولا على أنّ الله تعالى خلقه، أو اختار له زمانًا وسياقًا غير الذي كان يتمنّى، كذلك لا يعني الرضا عن الله تعالى وتقديره اتخاذ ذلك حجّة للتقاعس وترك العمل وفتور الهِمّة، بل وإقرار كلّ ما يجري حول العبد، معروفًا كان أم مُنكرًا، بحُجّة أنه قَدَر مكتوب! ولا هو ينافي إصلاح المعوج من السعي أو مراجعة النفس في تقصيرها، بحجّة أنّ خاتمته مقرّرة عند الله تعالى! فتلك كلها مساحات حركة العبد في عبوديته، والتصرّف مع مختلف الأقدار والأحوال -التي تقع بأمر الله تعالى- على الوجه الذي أمَرَ به الله تعالى.
ومما يهوّن على المرء وقع الابتلاء تذكرة النفس بحقيقة مغفول عنها، وهي أنك لستَ المُبتلى الوحيد في أيّ سياق، وإن تفاوتت صور الابتلاء، واختصاصك بابتلاء لا تجد في محيطك من يشابهك فيه لا يعني أنك ستنتهي بالضرورة لهاوية سحيقة لأنك لست محاطًا بفريق إنقاذ جاهز لانتشالك! لذلك إياك أن تتخذ الغم في ذاته عملًا، وابتعد تمامًا عن العزف الانفرادي على أوتار الوحشة والغربة والوحدانية، ودراما الاكتئاب والتخاذل والشعور بالرثاء لنفسك، فما أنزل الله تعالى من ابتلاء في الدنيا إلا وجعل له فرجًا، والفرج هنا مطلق الدلالة على أية صورة أو هيئة يجعل الله تعالى بها وفيها الفرج، ولو أن يبُرِّد صدر المبتلى ويقذف فيه سكون التسليم والرضا.
4- التعبد بالاحتساب:
الاحتساب هو طلَب الثواب من الله تعالى، فيما يعمله المسلم من عمل سواء كان فرضًا أو تطوّعًا، وكذلك فيما يصيبه من مصائب، ولا بدّ أن يريد المسلم وينوي وجه الله تعالى، وإلا لا يدخل في وعد المثوبة من كان ذاهلًا غافلًا عن نيّة الاحتساب وطلبه، ففي الحديث: «إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ فليقُلْ: إنا لله تعالى وإنا إليه راجعون، اللهم عندَك أَحتَسِبُ مُصيبَتي، فأَجِرْني فيها، وأَبدِلْني بها خيرًا منها» (السيوطي، وأبو داود)، هذا الدعاء ليس عزاء وشفاء يمسح على القلوب المنكسرة فحسب، بل قوة تَجبُرها كذلك، إنه اعتراف وإقرار بأنك وما أُصِبتَ فيه من فقد مال أو أهل أو بعض نفس، كلّ ذلك كما كان منه سبحانه ابتداء فهو إليه راجع، فنحن وما نملك وما نحب وما نجمع مِلك لله، عاريّة مردودة له تعالى، والإعارة مؤقتة مهما طال أَمَدها، فلا لا خلود ولا تمام ولا بقاء ولا كمال في الدار الدنيا، وقد أنبأنا ربّنا تبارك وتعالى وأعلمنا مُسبقًـا أننا مُبتلون بشيء من النقص في المال والأنفس والثمرات في هذه الــدار.
وبالإضافة لما يرجوه المسلم من ثواب فيما يصيبه، فإنّ من نِعَم المِحَن التي يحتسبها كذلك تكفير الخطايا والسيئّات التي لا يخلو منها حَيّ بدرجاتها: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ (التعب) وَلا وَصَبٍ (الوجع الدائم أو المرض) وَلا هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كَفَّر الله تعالى بهَا مِنْ خطَايَاه» (متّفق عليه)، ثمّ تكون رِفعَة وتطهيرًا: «فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يمشيَ على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ» (رواه الترمذي).
5- التعبد بالصبر:
الصَّبر فهو في اللغة: «حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ الْجَزَعِ» (لسان العرب)؛ وفي الشرع: إمساك النفس عند مواطن الشدّة والجَزَع عن أن يَصدُر منها ما يصدُر من جَزوع هَلوع، كالصراخ والنياحة واللطم والنّدْب.. ومما ورد في أقوال السلف في تعريف الصبر: «ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله تعالى» (الجرجاني، «التعريفات»)؛ وفي تفسير قوله تعالى على لسان سيدنا يعقوب لمّا بلَغَه نبأ فقد يوسف فقال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَالله تعالى الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18)، جاء في تعريف الصبر الجميل أنه: «صبر لا شكوى فيه للخَلْق» (تفسير ابن كثير)؛ «هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى؛ وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعُبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم» (تفسير القرطبي).
ومما يعين على الصبر الجميل الحرص على تذكير النفس بنعم الله تعالى الحاضرة التي لا يخلو منها أحد مهما اشتدّ ابتلاؤه، وتقليب الخاطر فيما يستثير في النفس حمد الله تعالى وشكره بصدق، ولو لم يجد المؤمن إلا نعمة الإسلام لكفى بها نعمة ولَقَصُر دونها شُكرُه! فأي بلاء أعظم من أن يُختم لامرئ على كفر ويُخلَّد بسببه في عذاب مقيم؟! وأي بلاء لا يعوِّضه عظيم ما أعدَّ الله تعالى في الآخرة من ثواب دائم ونعيم دائب، يَصُبّه صبًّا على المؤمن الصابر المحتسب في الدنيا؟!
ومن المزالق التي ينبغي أن يتنبّه لها المؤمن، خاصة حين يطول ابتلاؤه أو تكثر مصائبه، ألّا ينحصر فكره وتقليب خاطره في مدى ما يعاني وشدّة ما يلقى، لئلا ينقلب الصبر الجميل لتصبّر مرير، تظهر مراراته وينعكس مَضضه في: نبرة التهكّم أو السخط أو الأسى على كدر الدنيا ونكد الأحوال وانحدار الإنسانية..، إلخ، وفي عمق الشعور بالرثاء للنفس والشفقة على الذات وتوقع دوام العطف والمراعاة التامَّيْن ممن حوله خاصة ممن يراهم معافين، وفي شدّة الحساسية وسرعة العصبية بسبب عدم الرضا الكامن في النفس..، إلى آخر الآفات الناشئة عن استقرار شعور المرء بأنه “ضحية”، وما هكذا يكون شعور المؤمن أبدًا تجاه أقدار الله تعالى معه وفيه، فهذا يخالف مقتضيات اعتقاده في الله تعالى الحكيم العليم الخبير الفعَّال لما يريد.
والصبر الذي هو مفتاح الفرج إنما يتأتّى بالاستعانة بالله تعالى على الصبر، والمصابرة في ذلك، أي المثابرة في التحمّل بجَلَد وصلابة، بتوطين النفس على الرضا والاستكانة لمقدور الله تعالى، مع الأمل في فرج الله تعالى واليقين في ولايته ووعده، دون استعجال أو يأس أو هروبية بإيقاع النفس عمدًا في مختلف صور الغفلة واتباع الهوى للنسيان والتناسي، فما لك من الصبر بُدٌّ، وما لك عن الله تعالى غنى، وإلّا أين المَفرّ؟!
لا خلاف في أن المؤمن بشر، يعرض له ما يعرض للبشر من أطوار تخاذل وضعف همّة وخَوَر عزم وهوان نفس.. لكنَّ كونه مؤمنًا يقتضي ألا يكون ذلك هو الأصل فيه وإن طرأ عليه، والعبرة في النهاية بما غلب على حاله، وبما يغلب على نفسيّته عامة في تعامله مع مختلف مِحَن الحياة، بحسب مدى إيمانه وحسن تربيته وتهذيبه لنفسه.