الحنف لغة الميل، والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام، وقيل: الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، وأول من سمى حنيفاً هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وسمي بذلك لأنه حنف إلى الإسلام، ونبذ عبادة الأصنام، وصدق الله في قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67)، رداً على قولهم: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ) (البقرة: 135).
فالحنيفية التي كان عليها سيدنا إبراهيم هي دين التوحيد والاستسلام لله عزوجل، ونبذ الشرك والكفر وكل ما كان يعبد من دون الله، وهذا هو دين الأنبياء والرسل جميعاً، ولم يختلفوا فيما بينهم إلا في الشرائع والأحكام، أما الاعتقاد والإيمان بالله فكانوا على التوحيد.
لذا، نستطيع أن نقول: إن الحنيفيين هم الذين رفضوا عبادة الأصنام وتركوا ما عليه قومهم من عبادة غير الله، وأخذوا يبحثون عن الدين الحق وبقايا دين إبراهيم من الحنيفية السمحة، ومن أشهر هؤلاء قبل البعثة زيد بن عمرو بن نفيل، وقيس بن ساعدة الإيادي، وورقة بن نوفل، وسويد بن صامت الأوسي، وأبو عامر بن صيفي، وأمية بن أبي الصلت، وعبدالله بن جحش.
سمات الحنيفيين التي تميزوا بها
1- أصحاب عقول مستنيرة:
الحنيفيون أصحاب عقول مستنيرة رفضت عبادة الأصنام، وسخِروا من قومهم، وثاروا على معتقداتهم، وحاربوا الأمراض الاجتماعية، وتجنبوا أخلاقيات القوم من شرب الخمر والميسر وذبح القرابين على النصب ووأد البنات.
2- الإيجابية والذاتية:
والإيجابية والذاتية كانتا من سماتهم، فتحركوا يبحثون عن الدين الحق، وتحملوا الصعاب والمشاق في أسفارهم يسألون الرهبان والأحبار، وكثير منهم مات قبل أن يصل إلى بغيته.
وحكى ابن هشام في سيرته عن أربعة من الحنفاء الذين كانوا يسخرون من عبادة الأصنام ويلتمسون الصواب في الدين؛ ورقة بن نوفل، وعبدالله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو، وقد اجتمعوا في عيد لهم عند صنم من أصنام قريش، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم، ويطوفون بحجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يبحثون على دين إبراهيم عليه السلام.
3- كانوا من أصحاب المكانة والوجاهة في قومهم:
وكذا التغيير لا يأتي إلا على أيدي أناس وجهاء في قومهم، فميزة التفكر لم تكن لدنيء الشرف قليل العقل، وإلا فالاتباع الأعمى والسير خلف قوافل القوم ضلوا أو اهتدوا.
4- كانوا من أهل القراءة والاطلاع الواسع على الكتب المقدسة:
في سعيهم الحثيث نحو التعرف على دين الله الخالق قرؤوا الكتب المقدسة، وتدارسوها، وعرفوا ما جاء فيها، إلا أنها أيضاً نظراً لما جاء فيها من تحريفات اليهود والنصارى لم تكن كافية لإرواء ظمئهم إلى الهدى والمعرفة.
5- مواجهة أهل الشرك والوثنية:
فقد كانوا يخرجون إلى الأسواق يدعونهم إلى التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، والسخرية من معتقداتهم الفاسدة.
6- امتلاكهم وسائل الإعلام:
كانت وسيلة الإعلام الأولى في المجتمع العربي هي الشعر، وكان للشعراء مكانة لا تدانى، وكانت تقام الولائم والأفراح في القبائل إذا برز فيها شاعر، فهو لسانهم في الفخر والمدح، والمدافع عنهم في الهجاء، وقد برز عدد كبير من الشعراء يحملون دعوة الحنيفية من الإيمان بالله والإيمان بالبعث والحساب والجنة والنار، ومنهم على سبيل المثال زهير بن أبي سلمى، أحد أصحاب «المعلقات» الشهيرة، ومن قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
ويقسم بالكعبة فيقول:
أقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بناه من قريش وجرهم
ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل، يقسم بالبيت فيقول:
عذت بما عاذ به إبراهيم مستقبل القبلة وهو قائم
أنفى لك اللهم راغم مهما يجشمني فإني جاشم
وعن التوحيد والإيمان يقول:
أرب واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور
ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الرب الغفور
ومنهم قس بن ساعدة الأيادي، وله أشعار كثيرة تدل على إيمانه بالله واتباعه للحنيفية السمحة، وله خطبة شهيرة كان يخطب بها في سوق عكاظ، منا: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئاً فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون».
ومنهم أمية بن أبي الصلت كان له شعر يدل على الإيمان بالله، ولكن له قلب مظلم مليء بالحسد والبغضاء ساقه إلى الكفر فقالوا عنه: آمن شعره وكفر قلبه.
7- تعرضهم للإيذاء:
وهذا ما يغفل عنه الكثير من الباحثين، فدعوتهم إلى الإصلاح تصادمت مع سدنة الأوثان الذين يتكسبون من أصحاب العقول المريضة التي تقدم النذور والقرابين والذبائح للأصنام، والمتكسبين من لعب الميسر وصناعة الخمور وأصحاب المصالح؛ فجلبت عليهم السخط والغضب، وكانوا يسخرون منهم، وكثير تعرض للإيذاء البدني مما دفعهم إلى الفرار إلى الأماكن الآمنة.